الاقتصاد السياسي لأنماط الرأسمالية .. لروبير بواييه
هناك العديد من الأسئلة المطروحة اليوم على رجال الاقتصاد خاصّة وعلى أصحاب القرار بصورة عامّة في العالم الرأسمالي الغربي. أسئلة ليس أقلّها أهمية تلك التي تتعلّق بـ«مستجدات» و«حالات الانسداد» السائدة اليوم. والبحث عن معرفة الأسباب التي أدّت إلى كبح المسار المزدهر الذي عرفته العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي أطلقوا عليها في فرنسيا توصيف «الثلاثينات المجيدة»؟.
وأسئلة حول تفسير واقع أن عمليات «التجديد المالي» في العالم الرأسمالي قد أدّت في مراحل أولى إلى «تسارع» النمو الاقتصادي ثم كانت وراء الأزمة المالية والاقتصادية الكبرى التي أعادت للأذهان فترة «الكساد» في نهاية عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي؟، وحول معرفة إذا كان للعملة الأوروبية الموحّدة «اليورو» دور في تعميق الشرخ بين بلدان الشمال الغنيّة وبلدان الجنوب الفقيرة؟.
على هذه الأسئلة كلّها يقدّم روبير بواييه، الاقتصادي الفرنسي والمدير السابق للدراسات في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي وأحد مؤسسي «نظرية الضبط ــ التنظيم ــ الاقتصادي»، إجاباته في كتاب يحمل عنوان: «الاقتصاد السياسي لأنماط الرأسمالية”.
نظرية الضبط ولا يتردد روبير بواييه في التأكيد أن تلك «النظرية» تمثل الإطار الذي يمكن أن تتم بداخله الإجابات الفاعلة عن الأسئلة المطروحة. وهو يبدأ بتقديم نبذة تاريخية عن النظرية التي تأسست ملامحها الرئيسية في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، وبالتحديد «وُلدت في صلب الإدارة الفرنسية»، كما يشير.
ويشرح المؤلف أن الاقتصاديين الذين انكبّوا على دراسة الأسئلة المطروحة والبحث عن أسباب فترات «الاستقرار» و«غياب الاستقرار» في الميدان الاقتصادي وصلوا إلى نتيجة أساسية مفادها أن «الرأسمالية يمكنها أن تأخذ حسب الأمم والمجتمعات المعنية بها أشكال عديدة».
ونتيجة أخرى مفادها أن «نفس الأسباب لا تؤدّي إلى نفس النتائج» في جميع الحالات. هذا مع إعادة ذلك إلى «اختلاف ردود أفعال الأمم على الأوضاع الاقتصادية تبعاً لمؤسساتها الموروثة من تاريخها الخاص بها». هذا وصولاً إلى نتيجة نهائية أساسية تقول إن «التواؤم بين المؤسسات والنظام الاقتصادي هو الذي يحدد استقرار، أو عدم استقرار، الاقتصاد».
ما يتم التأكيد عليه في هذا السياق هو أن كل اقتصاد «محدد تاريخيا وجغرافيا» يتميّز بوجود «نمط خاص للضبط والتنظيم في المجال الاقتصادي». وشرح أن مثل النمط يتحدد من خلال آليات عمل المؤسسات المعنية بالمنافسة وبالنظام النقدي وبمدى الاندماج في الاقتصاد العالمي.
وعلى أساس التحولات التي عرفتها المؤسسات المعنية في التاريخ الحديث يحدد المؤلف عدّة أنماط أساسية من «الضبط ــ التنظيم ــ الاقتصادي» في الغرب الرأسمالي. ويشير إلى أن النمط الأوّل استمرّ حتى نهاية القرن الثامن عشر والذي «كان الضبط والتنظيم» فيه يتم على إيقاع «مصادفات الزراعة»، إذ كان يكفي توالي عدّة مواسم «عجاف» كي تحدث «المجاعات ويتعاظم عدد الوفيات».
ثم تلا ذلك «الضبط» على أساس المنافسة في القرن التاسع عشر مع حلول الصناعة مكان الزراعة كـ«محرّك للاقتصاد».
وتعاقبت في تلك الفترة فترات الازدهار مع فترات الانكفاء، وكانت الأجور والأسعار هي «المعايير» الأساسية لعملية «ضبط» عمل آليات الاقتصاد. بالتوازي مع توظيف رأس المال في الاستثمار وحيث كان العاملون بمثابة «مستهلكين» أيضا..
أمّا في العصر الحالي فقد اكتسبت المجموعات والأسواق المالية سلطة أكبر. ويشير المؤلف في هذا السياق أن أزمة خريف عام 2008 التي انطلقت من الولايات المتحدة لتشمل العالم قد تكون بمثابة «نهاية حقبة»..
ويشرح روبير بواييه أن «نظرية الضبط ــ التنظيم ــ الاقتصادي» «أخذت» أسسها من عدّة مشارب فكرية سابقة. هكذا «استعارت» من «مدرسة الحوليات في كتابة التاريخ»، التي تعود لثلاثينيات القرن الماضي، فكرة «ضرورة تبنّي المنظور التاريخي على الأمد الطويل». ويشرح المؤلف أن هذه المدرسة في قراءة التاريخ تبيّن كيف أن جميع المجتمعات فيها عوامل نشوب أزمات اقتصادية في بنيتها نفسها.
ويشير المؤلف أن مؤسسي المدرسة التاريخية الفرنسية الجديدة ــ الحوليات ــ لكتابة التاريخ طبّقوا مفاهيمهم على الأزمات التي عرفها العالم القديم بينما يحاول أصحاب «نظرية الضبط الاقتصادي» تطبيقها على الأزمات المعاصرة.
المشرب الفكري الثاني الذي استلهم منه أصحاب «نظرية الضبط الاقتصادي» مرجعياتهم «أخذوه» من المفاهيم الاقتصادية التي قال بها المفكّر الاقتصادي للرأسمالية «كنزي» والذين خلفوه حول «أدوات الاقتصاد الشامل ــ الماكرو». وأخيرا «اعتمدت» على التحليل الذي قدّمه ماركس لـ«دينامية الرأسمالية». وتأكيد المؤلف أن الفكر الاقتصادي الذي قال به جرى رسم «صورة كاريكاتورية» له من قبل اقتصاد السوق.
ويشير المؤلف إلى أنه من الركائز الأساسية التي يتم التأكيد عليها في السياق الحالي هناك «الدور الحاسم» للمؤسسات العامة التي تدير أمور الدولة فيما يخص آليات عمل الاقتصاد. بهذا المعنى أصبحت النظرية نوعا من التعبير عن «اقتصاد سياسي» بالمعنى الواسع. ذلك على أساس التأكيد على «التمفصل» الوثيق بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي.
والتأكيد أن البعدين «السياسي» و«الاقتصادي» يشكّلان النمط الحديث السائد من الرأسمالية. بل غدت السياسات التي ترسمها الدول وأشكال التدخّل التي قد تقوم بها تجد «تبريراتها» في التحليلات الاقتصادية الآنية أو المستقبلية. هذا إلى جانب تأمين فعالية الأسواق و«تناسي» أن النزاعات الاجتماعية يمكن أن تشكّل الأسس العميقة لمختلف النشاطات السياسية.
نقلا عن البيان الاماراتية