الفنان التشكيلي المجهول في ذكرى ميلاده على الديب.. مُصمم علم مصر الذي لا يعرفه أحد

هذا رجل شبه مجهول للناس، وكان من المُفترض أن يصبح أحد أعلام مصر، فهو – لمن لا يعرفه- الرجل الذي صممّ علم مصر، والذي أطلق على “ميدان التحرير” اسمه الحالي

إنه الفنان التشكيلي علي كامل الديب، أول مدير مصري للمتحف الزراعي بعد ثورة 23 يوليو 1952، وصاحب فكرة تغيير علم العهد الملكي “الأخضر بهلال و3 نجوم”، إلى شكله الحالي. وهو بذلك الشخص الأجدر بالكراهية عند الوفديين وأنصار “الأسرة العلوية”، وكل الذين يطالبون حتى هذه اللحظة بعودة العلم القديم!

يحيا “الفن المنحط”!

وُلد علي كامل الديب عام 1909 في قرية “أبو رجوان” جنوب الجيزة، والتحق بمدرسة “الفنون الجميلة العليا” سنة 1927، وسافر أثناء الدراسة إلى فرنسا ومنها إلى إيطاليا، في بعثة لدراسة النحت والتصوير. عاد بعدها إلى مصر، وتخرج من الفنون الجميلة  عام 1933، وكان ترتيبه الأول على قسم التصوير، ثم دخل معترك الحياة، وأسهم بقوة في النشاط الثقافي المزدهر، آنذاك.

عمل رساماً بالمتحف الزراعي في الدقي عند إنشائه عام 1934، وأشرف بعد ذلك على تنفيذ معظم قاعات المتحف، التي تمثل أوجه الحياة والفنون الريفية بأسلوب متاحف الشمع العالمية. كما أشرف على تنظيم جناح مصر في “معرض باريس الدولي” عام 1937.

كان الديب عضواً بارزاً في جماعة “الخبز والحرية” اليسارية، التي أسسها الفنان أنور كامل في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي، وضمت مجموعة ممن اشتهروا فيما بعد، ومنهم رمسيس يونان وجورج حنين وكامل التلمساني ولطف الله سليمان وأحمد راسم وألبير قصيري وأنور كامل. وكانوا جميعاً فنانين بشكل ما، متعلمين في أوروبا، شيوعيين من أولاد الذوات والأعيان وبعض المتمصرين!

وقتها، اعتبر المتعلمون من أبناء الطبقة الثرية والمتوسطة العليا أنفسهم طليعة مثقفة لمجتمع ما قبل ثورة 23 يوليو المتخّلف، والذي كان مشروعه الوطني هو “محاربة الحفاء”.

وشارك الرجل مع زملائه في الأنشطة السرية العلنية للجماعة، ومن بينها طباعة المنشورات وتنظيم المحاضرات للعمال والفلاحين، بهدف تثقيفهم فنياً، وترقية وعيهم السياسي. وكان هذا جزءا من استراتيجية “الخبز والحرية”،

في المقابل، يرى المؤرخون غير اليساريين أن هذه الجماعة، وأمثالها من التنظيمات كانت مجرد “موضة ثقافية” سادت في أوساط شبان الطبقات الغنية، الذين درسوا في الخارج، وانبهروا بتتبّع وتقليد كل ما هو أوروبي.

والدليل على ذلك أن شعار الجماعة الغريب، (يحيا الفن المنحط)، كان مجرد صدى لما حدث في أوروبا وقتها، حيث ظهر هذا الشعار الطريف بعد إحراق مؤلفات الطبيب النفساني المعروف سيجموند فرويد، وتمزيق لوحات الفنانين الطليعيين، ومنهم بول بول كانديسكي وماكس إرنست، فأصدرت جماعة “الخبز والحرية” أول مانيفستو لها (بيان)، أعلنت فيه وقوفها ضد “محاولات إعادة العصور الوسطى الجديدة التي يحاولون بعثها في قلب أوروبا مرة أخرى”!

ولهذا السبب، لم تُحدثْ مجهودات جماعة “الخبز والحرية” تغييراً ملموساً في الأوساط الاجتماعية الفقيرة التي تحركت فيها. وشككّ المؤرخون الشيوعيون في نوايا الجماعة، حيث قال د. رفعت السعيد، صاحب نظرية “الأسقف الثورية المنخفضة”، إن جميع أنشطة أنور كامل كانت تجري بتنسيق مع البوليس السياسي!

ومع ذلك، يقول المفكر الفرنسي الشهير جاك بيرك، عن أعضاء “الخبز والحرية”، في أحد كتبه: “ماذا صنع هؤلاء؟ ربما لا شيء، لكنهم صنعوا المستقبل”.

ولم تذكر أي مطبوعة أهلية أو مرجع أكاديمي عن تاريخ الفن التشكيلي المصري، أن الديب كان عضواً ناشطاً في “الخبز والحرية”، باستثناء مجلة صغيرة “ماستر” أصدرها الشاعر هشام قشطة عام 1991 تحت اسم “الكتابة الأخرى”. ونشرت هذه المجلة النخبوية الغريبة ملفاً كبيراً عن الجماعة في عدد خاص.

وربما يرجع السبب في هذا الغموض إلى أن الديب، الذي كان زاهداً في الشهرة إلى حد بعيد، لم يُشر إلى “ماضيه اليساري” خلال عهد الثورة مطلقاً، باعتبار أن ذلك كان وصمة في ملف أي موظف حكومي. وعلى ذلك، تولى مناصب فنية عديدة، باعتباره “يسارياً سابقاً”، أيام كان آلاف الشيوعيين الشبان رجالاً ونساء في المعتقلات بعد ثورة يوليو !

علي كامل الديب.. الشيوعي الذي صَمَّمّ علم مصر
علي كامل الديب.. الشيوعي الذي صَمَّمّ علم مصر

سر ألوان العلم الثلاثة

تحمّس الديب بقوة لحركة “الضباط الأحرار” فور وقوع ثورة يوليو، ووصفها بـ “الثورة الخجولة”، فقد كان الرجل الذي ضمت أسرته بعض الإقطاعيين، يرى نفسه عدواً لكل ما مثّله ذلك النظام الإقطاعي من جهل وفقر ومرض.

وفي 23 يناير عام 1953، نشرت جريدة “الأهرام” على صفحتها الأولى، صورة ضمت كلاً من الرئيس الراحل محمد نجيب، والمشير عبد الحكيم عامر، والضابط وجيه أباظة، عضو “الضباط الأحرار” الذي تحوّل فيما بعد إلى رجل أعمال، وهم يتسلّمون برنامجاً عملياً لإنزال “الفن التشكيلي” من عليائه في المتاحف والقاعات إلى عامة الشعب. والمؤسف أن هذا البرنامج الذي وضعه علي كامل الديب، لم يُنفذ حتى الآن!

وفي لقاء تليفزيوني نادر معه، حكى الديب قصة تصميم علم مصر الحالي، قائلاً: ” أثناء جولتي مع نجيب وعامر وأباظة، قلت لهم: ليس من المعقول أن يجري الاحتفال بمرور 6 أشهر على الثورة، ونحن نرفع هذا العلم الأخضر الذي كان رمزاً للعهد السابق، لابد أن تكون هناك شارة جديدة للتعبير عن العصر الجديد”.

وأضاف: “في اليوم التالي تحدث معي أبو الفضل الجيزاوي، النائب البرلماني المعروف، لبحث الأمر. وبعدها بيومين اتصلت بالسيد أباظة وقلت له (وجدتها يا وجيه!)، حيث اقترحت أن يحمل العلم الجديد ألوان الشارة التي وضعها الضباط الأحرار على صدورهم ليلة الثورة، كعلامة تدل عليهم، وهي الأحمر والأسود والأبيض، وأضفت النسر في المنتصف”.

وكان تصميم العلم الأول يحتوي على دوائر ثلاثة فوق الجزء الأسود من العلم، مكتوب فيها ثلاث كلمات : “الاتحاد، النظام ، العمل”. وهي نفس الكلمات الثلاث التي قال عنها محمد نجيب في مذكراته: “لم أستطع أن أطبّق الشعار الذي أعلنته الثورة، الاتحاد.. النظام.. العمل، إلاّ على القطط والكلاب في إقامتي الجبرية بمعتقل المرج”!

وبين الحين والآخر، يشن عدد من دعاة عودة “العلم الأخضر” هجوماً على مُصمم العلم الحالي، حيث قال فنان تشكيلي مصري يقيم في الولايات المتحدة، هو الدكتور رضا عبد الرحمن، أحد تلاميذ فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق: “إن الديب ليس فناناً كبيراً، بل هو ضعيف فنياً، وكان معظم نشاطه موجهاً بالأساس إلى إدارة المتاحف وتنظيم المعارض”.

جماعة الخبز والحرية

وردا على ذلك، قال الدكتور أحمد علي كامل الديب، نجل الفنان، في تصريحات صحفية: “إن والدي ليس بفنان ضعيف، كما ادعى رضا عبد الرحمن، إنه صاحب تاريخ مشرف، وعلى من يردد ذلك أن يذاكر سيرته قبل أن يتحدث عنه”، مشيرا إلى أن والده هو من أطلق على “ميدان التحرير” اسمه الحالي، بدلاً اسمه السابق “ميدان الإسماعلية”، بالإضافة إلى أنه أخرج أول استعراض وطني راقص بعنوان “موسيقى ابن النيل”.

وأوضح أحمد الديب أن “الوالد قدم عدداً كبيراً من المعارض التشكيلية داخل مصر وخارجها، ومثّل بلده في عدة فاعليات دولية مهمة، كما حصل على عدة جوائز عالمية. ولو كان والدي ينتمي لجيل هذا الفنان الذي يطلق على نفسه دكتور، وينتقد الناس جزافاً دون أن يعي قيمة من ينتقده، لأصبح من أثرياء العالم”!

أنجز الديب خلال مسيرته الفنية عددا كبيراً من الأعمال، منها لوحات اجتماعية، وسلسلة لوحات زيتية بطول 37 متراً تمثل مظاهر الحياة في العصر الفرعوني. كما صوّر ا في لوحاته الموجودة في المتحف الزراعي، بروح اليساري الفنان، حياة الفلاحين القاسية في الدلتا والصعيد، ورسم وجوهاً ملفتة من الصيادين والبشّارية والبدو، في جميع أنحاء مصر.

وسافر إلى عدد من الدول العربية والخليجية، كمبتعث من الدولة لوضع أولى بذور الفن التشكيلي في هذه الدول الوليدة، وقتها، والتي كان بعضها يحرّم التصوير نهائياً. ومنها سلطنة عمان والبحرين والإمارات والكويت.

كما حصل  علي كامل الديب بأعماله الفنية العديدة داخل مصر، في مجالات التصوير الزيتي والنحت على نوط الامتياز من الطبقة الأولى عام  بمناسبة العيد الماسي لكلية الفنون الجميلة ، ونال جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1994، كما حصل في العام نفسه على “وسام العلوم والفنون” من الطبقة الأولى.

بقلم / طايع الديب

Exit mobile version