بنية الديمقراطية الإسرائيلية..”من يهودية الدولة إلى شارون”

بنية الديمقراطية الإسرائيلية..”من يهودية الدولة إلى شارون”

يحلل كتاب  “من يهودية الدولة إلى شارون” لمؤلفه عزمي بشارة, بنية الديمقراطية الإسرائيلية إلى عناصرها المكونة، ويتناول أوجها متعددة لنشاط دولة إسرائيل، كعملية بناء الأمة من خلال الاقتصاد، والعناصر والأفكار المكونة للأيديولوجية الإسرائيلية السائدة، والنموذج الإسرائيلي للتفاعل مع العولمة بالقدر اللازم لفهم تناقضات الديمقراطية في الخريطة السياسية الإسرائيلية. والمؤلف هو عزمي بشارة الأكاديمي وعضو الكنيست الإسرائيلي وأحد القادة والنشطاء الفلسطينيين في إسرائيل.
يبدو الكتاب من البدء متسقًا مع مشروعه، بأن يقدم بحثًا جديًا، لا يسعى إلى تحويل الإسرائيلي إلى موضوع يمكن تمثيله فحسب، مناكفًا علاقة القوة التي يحوزها الباحث الإسرائيلي في دراسته للمجتمع العربي الفلسطيني. ولا يريد تقديم نموذج معاكس للاستشراق الإسرائيلي فيكتفي بكونه استغرابًا، كما يوضح في المقدمة، بقدر ما يريد تقديم وجهة نظر عربية فلسطينية مفقودة في هذا النقاش. فلا ينظر عزمي بشارة في الكتاب إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي كآخر منفصل كما يفعل البحاثة الغربيون مع المجتمعات الأخرى، ولكن بصفته متعلقًا بمصائر الفلسطينيين وقضيتهم، سواء كمجتمع نقيض، أو باعتباره النموذج العملي والإجرائي لإقصاء الفلسطينيين واستبدالهم. وإذا كان هناك دليل واضح على ما نقوله، فهو أن “في كل موضوع (من مواضيع الكتاب) يحضر العرب والفلسطينيون” (ص8).

الباب الأول

نركز في هذا العرض على الباب الأول (مكون من فصول: 1- تناقضات الديمقراطية اليهودية، 2- دولة يهودية وديمقراطية، 3- دوامة الدين في الدولة تاريخيًّا)، معتقدين أنه تكثيف للمقولة الأساسية للكتاب، وفيما بعد، في أبواب الكتاب الأخرى، سنقدم مجموعة من المقولات المساندة، والتفصيلية التي عرضها الكتاب، والتي تساعد على فهم هذا التكثيف.

يقدم الفصل الأول من هذا الباب، والمعنون بـ “تناقضات الديمقراطية اليهودية”، معلومات عامة عن المجتمع والنظام السياسي الإسرائيلي، تمهد للقارئ أرضية لعرض مقولة الكتاب الأساسية، وتضعه أمام السجالات التي تخوضها الأقلية العربية في إسرائيل. قبل أن يبدأ بتقديم محاججته عن تناقض الديمقراطية الإسرائيلية من خلال مستويين.

المستوى الأول هو أن الديمقراطية الإسرائيلية تخلط بين مفاهيم، يتعارض الربط بينها مع بنية النظرية الديمقراطية، مثل الدين والقومية، إضافة إلى التعريف البدائي للأمة أو الشعب على أساس هجين بين العاملين السابقين. ولا يتعلق هذا الفصل حسب بشارة بالقوانين أو غيرها من تفاصيل نظام الحكم، بقدر ما يتعلق بأساسات الديمقراطية الإسرائيلية، وأساس تناقضاتها، وهو ما يشرحه الكتاب ويصفه باستفاضة. وتندرج تحت هذا المستوى، عوامل أخرى مثل العقيدة الأمنية الإسرائيلية، والثقافة التي تحملها الدولة في إسرائيل كدولة استعمار.

إن انشغال الدولة بالأمن إذن – في مفارقة مهمة- فيه تهديد لبنية الديمقراطية (الصفة الأولى للأمن الاجتماعي حسب المفهوم الليبرالي). لكن التساؤل الذي تطرحه وتجيبه الأحداث الأخيرة في دول أوروبية: هل يقتصر هذا التهديد على الثقافة الاستيطانية فقط؟ ولعل ما حدث مؤخرًا في فرنسا بعد عمليات “إرهابية” يجيب جزئيًّا على هذا التساؤل، إذ تبدو مشكلة تعارض العقيدة الأمنية مع الديمقراطية مشكلة مرتبطة بالدولة الحديثة، لا فقط بالاستعمار. وهذا يجعل الحالة في إسرائيل مضاعفة، إذ يتقاطع الاستعمار مع الدولة الحديثة.

عمومًا فإن هناك مستوى ثانيًا لهذا التناقض حسب بشارة، متعلقًا بيهودية الدولة، فليست إسرائيل ضمن الإصرار على يهوديتها، دولة لكل مواطنيها، لهذا السبب ولأسباب أخرى تفقد المواطنة فيها معناها الأولي الجامع في الدولة القومية الحديثة. ما يعني “أن الدولة ترى لذاتها مهمة أيدولوجية في إقناع هؤلاء -غير اليهود- أن لهم دولة غير الدولة التي يعيشون فيها عليهم أن يبادلوها الولاء وأن ينتقلوا إليها” (ص21).
بنية الديمقراطية الإسرائيلية.."من يهودية الدولة إلى شارون"
بنية الديمقراطية الإسرائيلية..”من يهودية الدولة إلى شارون”
تعجز الدولة بالتالي عن التخلي عن مهمتها السياسية في تصنيف مواطنيها كفئات مرغوب بهم، أو غير مرغوب بهم، فتعجز أن تلبي شرطًا من شروط الديمقراطية، أي المساواة.

بعد عرض هذا التناقض، يستعرض بشارة في الكتاب اختلاف نموذج الديمقراطية المتناقضة في إسرائيل عن نماذج أخرى معروفة، فهو إذ يرى فيها نموذجًا استعماريًّا، فهو يؤكد أن هذا التناقض ليس تناقض دولة الاستعمار الأم، التي تتغنى بديمقراطيتها بينما تمارس أشكال قمع مختلفة على مستعمراتها، ولكنه نموذج مختلف متعلق بأصل وفكرة الدولة في إسرائيل وبنائها. ويقترح الكتاب فيما بعد مفهمة خاصة لحالة إسرائيل، من خلال ما أظهره من تناقضات وتمييز في تعريفها للأمة والمواطنين، حيث يستخدم مفهوم الأبرتهايد الكولونيالي، الذي يأخذ من نموذج الاستعمار التقليدي، ومن نموذج التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، أسوأ ما فيهما.

فيما بعد يستعرض الكتاب المستوى الأول من هذا التناقض بتفصيل، أي (العلاقة بين الدين والدولة) محاولًا التأريخ له، وتشخيص تأثيره على الديمقراطية الإسرائيلية. فبرغم أن هذه العلاقة كانت متعارضة مع بناء الهويات القومية الجديدة في العالم، مثل الوطن العربي (الذي تشكلت القومية فيه من خلال الصراع مع الإمبراطورية الدينية العثمانية) فقد كانت هذه العلاقة ركنًا من أركان تأسيس الدولة في إسرائيل. ويظهر ذلك في أدبيات إسرائيلية كثيرة تتغنى بالشعب اليهودي، والأمة اليهودية.

الحالة في إسرائيل إذن تطابِق بوضوح بين القومية والدين. فالدين هو مقياس الانتماء إلى هذه الدولة. ولا تتشابه هذه المطابقة مع حالة تأميم الدين أو الشعور الديني، من أجل صياغة رموز وطنية، وهذا موجود في دول مختلفة من العالم. ولكنها مطابقة فريدة جدًا، تُبنى السيادة فيها، ويبنى حق تقرير المصير بحجج ميثولوجية توراتية.

إن السياق الذي تطورت فيه الديمقراطية الإسرائيلية إذن، هو السياق الصهيوني، رغم كل ما يتعلق بهذا التطور من دور الطبقة الوسطى والتعليم والعلاقة مع أوروبا، إلا أنه يظل رهينًا لعناصر مؤسسة من السياق الصهيوني. بالتالي تنوب الصهيونية عن مفهوم المواطنة كرافعة للديمقراطية الإسرائيلية، وكمعيقة لها في نفس الوقت، “فهي في ساعات الأزمات تحديدًا لا تعدو كونها ديمقراطية داخل قبيلة” (ص31).

وتنوب الوظيفة الأيدولوجية عن المواطنة، حيث إن الجامع الوحيد بين فئات إسرائيلية متناقضة، في ظل غياب التاريخ المشترك، هو الانسجام والاتفاق على أن هدف الدولة هو تجميع الهجرات اليهودية. وباختصار ضروري، فإن المقولة التي يريد الكتاب تقديمها هنا، هي عدم جواز فصل يهودية الدولة عن ديمقراطيتها، ضمن السياق التاريخي والاستعماري المذكور.

حسب بشارة، لا فصل بين ديمقراطية إسرائيل ويهوديتها، لأن لا فصل بين قوميتها ويهوديتها أيضًا، فلم تستطع الدولة في إسرائيل تقديم تعريف للمواطنة يختلف عن تعريف الانتماء إلى دين معين. وبهذا يتشارك موقف العلماني في إسرائيل مع الموقف الذي يتبناه المتدين المتطرف! لأن تعريف اليهودي قوميًّا هو نفسه تعريف اليهودي دينيًّا.

ويختتم الكاتب الباب الأول، بعرض التعريفات المختلفة لعملية العلمنة، وعرض عدم تناسب إسرائيل مع أي من شروط هذه التعريفات واستحقاقاتها. فلم تجر حسب وصف الكتاب أي عملية علمنة في إسرائيل، إلا ظاهريًّا، فتلتقي الحركات القومية المتطرفة، مع توجهات دينية مباشرة، مستخدمة نفس الخطاب والمصطلحات!

 

الباب الثاني

في هذا الباب (مكون من فصل: النزعة الأمنية)، يؤرخ عزمي بشارة للنزعة الأمنية ونشوئها في إسرائيل. إذ يرى بوضوح أن الانشغال الإسرائيلي (الذي سنوضحه لاحقًا) بالأمن، يعيق تشكل ديمقراطية إسرائيلية حقيقية.

فالعقيدة الأمنية الإسرائيلية تجيء بالأساس من الشعور بالتهديد الدائم، ومن إدراك عميق للجريمة التي قامت بها الحركة الصهيونية ضد الفلسطينيين. وبالتالي فإن مفهوم الأمن والعقيدة الأمنية ليس فقط مجرد خطاب للتجييش ومبرر للضبط، الخ، كما يستخدم هذا الخطاب في العادة. ولكنه شعور حقيقي بخطر وجودي وتهديد دائم. فقيام الدولة في خضم الصراع العربي الإسرائيلي، يجعلها منشغلة بهذا التهديد على وجودها، واستمرار السؤال عن شرعيته، ويجعلها على صلة بعدم تسليم الفلسطينيين ولا العرب بهذا الوجود.

الباب الثالث

يتطرق الكتاب في هذا الباب (يحوي فصول: 1- الاقتصاد والعولمة والسياسة، 2- بعض جوانب جدلية العولمة إسرائيليًّا)، إلى علاقة إسرائيل والاقتصاد الإسرائيلي مع العولمة. وعلاقة بنية الاقتصاد والتغيرات التي طرأت عليه بالنظرية الأمنية وبالديمقراطية وتناقضها. وهو في سبيل ذلك يهدف إلى تسليط الضوء على آليات تشكل النخب الجديدة في المجتمع الإسرائيلي، معززًا بذلك مقولته عن العلاقة بين النزعة الأمنية والديمقراطية.

إن التناقض بين الانشغال في الأمن والتطور الاقتصادي جليّ في حالة المجتمع الإسرائيلي، كما يوضح بشارة في هذا الباب، إذ أعاق الهوس الأمني وهوس الرغبة بالتطوير العسكري، الوضع الاقتصادي الإسرائيلي، ولولا الدعم الأمريكي في فترات كثيرة لكان الاقتصاد الإسرائيلي مهددًا بالانهيار. لكن ظروفًا كثيرة غيرت هذه الوضعية، مع بدء عملية التسوية في المنطقة وسقوط الاتحاد السوفييتي وظروف أخرى، صارت المصاريف الأمنية أقل، وصار هناك اهتمام بالصناعات المدنية، ما أدى إلى تقليل سيطرة الدولة على الاقتصاد. وتمكن الإضافة هنا على الظروف التي قدمها الكتاب، أن بداية جديدة لاستثمار في الصناعات العسكرية كانت في إسرائيل في هذه الفترة، بعد أن ترك انهيار الاتحاد السوفييتي فراغًا كبيرًا للدولة الصغرى والصاعدة المستوردة للسلاح، مثل الهند والصين وغيرها، وبعد انتقال جزء من الخبرات العسكرية السوفيتية إلى إسرائيل.

البابان الرابع والخامس

 

في البابين الرابع (مكون من فصول: 1- المنتصر والمهزوم في الانتخابات الإسرائيلية، 2- انتصار الوسط ونهاية حقبة الاستقطاب، 3- تجزئة الهوية الجماعية، 4- إشكال العلمانية والدين في انتخابات العقد الأخير، 5- اليمين واليسار بعد انتخاب باراك) والخامس (فصوله: 1- باراك، 2- سقوط باراك، 3- شارون، 4- صورة السياسي)، يعرض الكاتب صورة عامة عن خريطة الأحزاب، وانقساماتها وأنواعها. والتغيرات التي طرأت عليها وعلى وصولها إلى السلطة، بدءًا من عام 1977 (كان هناك حزب واحد مسيطر قبل ذلك) حيث انقسم بعدها المجتمع الإسرائيلي إلى يمين ويسار، وبينهما أحزاب صغيرة ومتوسطة. ويبدو في هذا الجزء رصدٌ لتأثير هذه التغيرات على مسار الديمقراطية في إسرائيل. وهي تغيرات مرتبطة بالعناصر المذكورة مسبقًا، مثل التغير في التعامل مع نظرية الأمن أو مع الاقتصاد، والتوجهات نحو عملية السلام. ويقدم الكتاب من خلال هذا التتبع رصدًا لنتائج الانتخابات في إسرائيل، ويقرأ مضامينها، ممهدًا لدراسة مقولته فيما بعد بالنسبة لحقبتي باراك وشارون.

في فترة حزب العمل، الحزب الواحد، كانت النخبة أكثر وضوحًا، وتداخلت هذه النخبة مع أجهزة الدولة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا. ولم يكن الحديث عن مجتمع مدني إسرائيلي ممكنًا في هذه الفترة، خاصة أن الحركة الصهيونية رأت في الدولة ومؤسساتها وجيشها والشعب عنصرًا واحدًا. وحيث كان النشاط السياسي لا يهدف إلى الوصول إلى السلطة حسب وصف الكتاب المباشر، ولكن إلى هدف بناء الأمة. وقد استوردت الدولة في إسرائيل هذا النموذج من النموذج الشيوعي في أوروبا الشرقية، بطرق مختلفة، وعلى ما يبدو فقد كان  هذا هو الأفق الوحيد لبناء أمة، ونظام اقتصادي وسياسي يهودي.

وبدأ المجتمع الإسرائيلي بالتغير وبدأت معسكرات جديدة بالتخلق بعد حرب عام 1967، نتيجة أسباب كثيرة، مثل الوصول إلى تحالف مع الدول العظمى، والولايات المتحدة تحديدًا. والبدء التدريجي لوصول حزب الليكود إلى السلطة، وصاحب ذلك بالضرورة تغير في الرؤى نحو عمليات التسوية والسلام.

 

 

Exit mobile version