“ذبابة الفاكهة” وراء بعض أعظم الاكتشافات العلمية الحديثة

“ذبابة الفاكهة” وراء بعض أعظم الاكتشافات العلمية الحديثة

 

ربما يكون مفاجئاً للكثيرين منّا أن تكون حشرة صغيرة، يُبعدها غالبيتنا دون اكتراث عن وعاء الفاكهة في المنزل، مسؤولةً عن بعضٍ من أعظم الاكتشافات في تاريخ العلم الحديث.

“الوقت ‘يطير’ كالسهم، وذباب الفاكهة يحب الموز”، تشكل هذه الكلمات عبارة إنجليزية يهوى علماء اللغة الاستعانة بها لإظهار كيف يمكن للجُملة الواحدة أن تُقرأ بأشكال مختلفة. (Time flies like an arrow; fruit flies like a banana).

لكن هذه التركيبة اللغوية تتضمن كذلك حقيقةً تتعلق بحشرة “ذبابة الفاكهة”، الشائعة في المنازل، واسمها العلمي (دروسوفيلا مِلانوغستِر)، تلك الحشرة التي يخضعها العلماء للدراسة منذ أكثر من قرن من الزمان.

فبالفعل يحب هذا النوع من الحشرات الموز، وهو عبارة عن ذبابٍ يمكنك أن تجده في وعاء الفاكهة بمنزلك، عندما يبدأ العفن يسري في محتوياته، وذلك في تذكيرٍ بأن النصيحة التي تقول “كُلْ خمس ثمرات فاكهة يومياً” لم تُتبع من قبل قاطني ذلك المنزل بشكل كافٍ.

لكن هذه الذبابة تمثل وسيلة عظيمة الأهمية لدراسة الزمن، أو بالأحرى؛ الآثار المترتبة على مروره؛ لأن دورة حياتها قصيرة للغاية، وهو ما يسمح للعلماء بدراسة أجيالٍ متعاقبة منها، وهو أمر يكاد يكون من المستحيل تطبيقه على البشر خلال الفترة الزمنية نفسها.

ولا يتكلف المرء كثيراً لتربية هذا النوع من الحشرات، كما أنه يتكاثر بسرعة قياسية.

ففي درجة حرارة الغرفة؛ يمكن لأنثى ذبابة الفاكهة أن تضع ما بين 30 إلى 50 بيضة يومياً، طوال حياتها. ولا تستمر دورة الإخصاب لدى هذه الإناث كثيراً؛ إذ تتراوح عادة ما بين 8 إلى 14 يوماً، ويمكن أن يصبح لإناث تلك الحشرات أحفادٌ في غضون ثلاثة أو أربعة أسابيع لا أكثر.

ونظراً لحجم هذه الحشرة الذي لا يتجاوز ثلاثة ميلليمترات؛ يمكن أن يُوضع في المختبر ملايين منها في وقت واحد. ولا تتعدى احتياجاتها من الغذاء موادا تحتوي على الكربوهيدرات والبروتين. وعادةً ما يتألف نظامها الغذائي البسيط من دقيق الذرة وخلاصة الخميرة. الأهم من كل ذلك، أن هذا المخلوق الذي يُبعده معظمنا دون اكتراث عن وعاء الفاكهة في المنزل؛ مسؤولٌ عن بعضٍ من أعظم الاكتشافات في تاريخ العلم الحديث.

ففي عام 1933، فاز العالم توماس هَنت مورغان بجائزة نوبل، لأبحاثه حول كيفية وراثة هذا النوع من الحشرات طفرةً جينية أدت إلى أن تصبح أعينها بيضاء اللون وليست حمراء.

وقادت هذه الأبحاث إلى بلورة نظرية مفادها بأن المُوَرِثات “الجينات”، التي تخلقت بفعل الحمض النووي “دي إن آيه”، تُحَمَّل على صبغيات (كروموسومات)، تصبح بمثابة نواقل للمادة الوراثية عبر الأجيال. وأرسى هذا الاكتشاف أسس دراسة ما بات يُعرف بـ”الوراثة الجينية”، وكذلك علم الوراثة الحديث.

ومنذ ذلك الحين؛ قادت الأبحاث التي جرت حول ذبابة الـ” دروسوفيلا”، إلى فوز أصحابها بخمس جوائز نوبل أعوام: 1946 و1995 و2011. بل إن الأبحاث التي جرت على “ّذبابة الفاكهة”، تشكل أساس التفكير السائد حالياً بين العلماء، حول كيفية تطورنا وطبيعة سلوكياتنا، والتفاصيل الخاصة بتقدمنا في العمر، والتحورات التي تطرأ علينا.

وكلما أجرينا أبحاثاً أكثر حول هذه الحشرات؛ اكتشفنا مزيداً من أوجه الشبه بيننا وبينها. فلدى 75في المئة من الجينات الخاصة بالأمراض التي تصيب الإنسان، نظائرُ يمكن تمييزها في النوع الشائع من ذبابة الفاكهة.

ولـ”دروسوفيلا” أربعة أزواج من الصبغيات (الكروموسومات)، ونحو 14 ألف مُوَرِثة (جِين)، أما البشر فلدى كل منهم 22 ألفاً و500 من هذه المُورِثات، فيما توجد لدى الخميرة نحو 5800 مُوَرِثة فحسب. رغم ذلك فأوجه الشبه بين هذه الكائنات الثلاثة أكثر بكثير مما يحسب أحد.

ويعني هذا التقارب “الجِيني” النسبي؛ أن نتائج التجارب التي تُجرى على الـ”دروسوفيلا”، يمكن أن تنطبق بشكل فعال على البشر وهو ما يفيد العلماء.

فنحن نصل بهذه الحشرات إلى درجة الثمالة في إطار بحثنا لمسألة إدمان معاقرة الكحوليات، كما ندرس النوم وكيفية تأثر تلك الكائنات باحتساء القهوة، لنعلم أن فترات نوم الذباب الأكثر تقدما في العمر منها؛ أقل من سواها.

بل إن أول مجموعة من المُوَرِثات الخاصة بما يُعرف بـ”اضطراب الرحلات الجوية الطويلة” وُجِدَتْ في الذباب، وقد صرنا الآن نعلم أن لدينا مثيلاتٍ لها أيضا.

ويستعين آلاف العلماء بالحشرات من هذا النوع ككائنٍ نموذجي، لإجراء التجارب عليه في مختلف أنحاء العالم، بل وخارج الأرض أيضاً.

 

قد كانت ذبابات الفاكهة من بين أول الكائنات الحية التي أُرسلت إلى الفضاء؛ كما أن هناك مختبراً دائماً لهذا النوع من الذباب على متن المحطة الفضائية الدولية. وتستخدم هذه الحشرات لدراسة مسائل مثل السبب الذي يجعل رواد الفضاء أكثر عرضة للإصابة بالأمراض خلال مهامهم الفضائية.

ولكن إذا ما كنا قريبين إلى هذه الدرجة “جينياً” من ذبابة الفاكهة أو حتى الخميرة؛ لماذا توجد بيننا وبين هذين النوعين اختلافاتٌ في الكثير من الأمور؟ سؤال مثل هذا يصفه بيتر لورانس مؤلف كتاب “تركيبة الذبابة”، بأنه “السر الثالث للحياة”.

 

 

 

 

 

وفي مقابلة أُذيعت في إطار سلسلة “ناشيونال هيستوريس” التي تُبث على أثير إذاعة “بي بي سي راديو فور”؛ قال هذا العالم إن أول هذه الأسرار يتمثل في نظرية التطور التي توصل إليها العالم تشارلز داروين، والتي يشير لورانس إلى أنها قادت “ومن نقطة الصفر” كل الجهود الخاصة بتحديد أصل ونشأة مختلف الكائنات؛ حيوانات كانت أو نباتات.

ويضيف لورانس بالقول إن السر الثاني هو “اكتشاف الحمض النووي، لأنه دون فهم حقيقة أن المعلومات يجري تشفيرها وتخزينها في هذه الجزئيات، لم تكن ستصبح لدينا القدرة الكاملة على فهم الكثير بشأن آلية تكمن وراء الحياة”.

أما السر الثالث، فيرى لورانس أنه يمثل المشكلة الأكبر، التي ينبغي على علماء الأحياء معالجتها في المستقبل.

ويقول في هذا الشأن: “إنها مشكلة معتادة للغاية إلى حد يجعلنا لا نفكر فيها. ألا وهي: ما الذي يجعل هناك فوارق ما بين وحيد القرن وفرس النهر؟” على سبيل المثال.

 

 

 

Exit mobile version