عش بفلسفة اجتماعية محددة

من حسن حظ الإنسان انه كائن انتقائي , أي انه ليس كائنا امتصاصيا يستوعب وينطبع بكل ما يصدقه أو يحيط به من مواقف واتجاهات وعادات وأخلاق وقيم , انه يستوعب ويتأثر ببعض ما يحيط به بينما ينبو عن البعض الآخر , وأكثر من هذا فأنه يسقط من مقوماته بعض العناصر التي سبق له أن انتقاها واكتسبها واستوعبها , بل إنه بعد أن يكتسب المقوم الخبري فأنه لا يبقيه على حاله بل يحاول ما وسعت قدرته على إحالته أحالة عضوية إلى نسيج كيانه بحيث لا يظل على حاله ولا يبقى على نفس الصيغة التي كان عليها قبل أو في أثناء اكتسابه , ومعنى هذا إن الإنسان لا يأخذ كل شيء يسقط عليه و يحيط به , كونه بعد الانتقاء يشكل ويصوغ ما اكتسبه بحيث يصير متلائما مع قوامه , وذلك بأن يحمله على التفاعل مع العناصر والمقومات السابقة من جهة , ومع الكيان الكلي له من جهة ثانية , ولا يخفى أن عملية التفاعل الخبري ذاتها هي عملية حذف وتنقية وإحداث تغييرات في الجبلة التي كانت عليها العناصر التي تقبلها ولم تقع تحت وطأة الحذف.




بيد أن الناس ليسوا جميعا على نفس الدرجة من القدرة الانتقائية , فثمة أشخاص يميلون إلى التقبل الأعمى بحيث تنحصر قدرتهم الانتقائية في نطاق ضيق , , كما أن من بين الأشخاص من لا يتمكنون من النهوض بالعملية التفاعلية الخيرية , فعقولهم كالمعدة التي لا تستطيع أن تهضم الطعام , فيظل كما هو إلى أن يطرده الجسم على حاله , ومن المؤكد أن أولئك الأشخاص الذين يفتقرون إلى القدرة الانتقائية شذاذ بالقياس إلى طبيعة الإنسان , فالإنسان كما فطر وبحسب منطق جبلته الحقيقية كائن انتقائي , وما يخضع له المرء من تربية هو الذي يمكن أن يحافظ عل تلك الطبيعة الانتقائية أو يمكن أن يفسدها , ونأسف إذ نقرر أن التربية – شأنها شأن جوانب الحضارة الكثيرة المتباينة – قد ضلت طريقها , فكما أن الحضارة قد ضلت طريقها وهي تفتن في أعداد الطعام الشهي إذ استبدلت بالطعام المفيد طعاما ضارا على الرغم من لذة طعمه , كذا فأن التربية قد أفسدت في الغالب النزعة الانتقائية التي ولد بها جميع الأطفال لأنها من صميم الطبيعة الإنسانية , وأحلت محلها بعد إفسادها نزعة أخرى هي النزعة التقليدية الامتصاصية.

لقد كان الخليق بالتربية أن تبدأ من حيث طبيعة الإنسان , ولكن بدلا من ذلك بدأت من حيث لا ينبغي أن تبدأ , بالتحفيظ وحمل الصغار – بل والكبار – على التقبيل والامتصاص غير المتبصر لما يحيط بهم ويفرض عليهم ويحتك بشخصياتهم.

ولو أن التربية أرادت تصحيح مسارها , إذن لأخذت بخط جديد ومنهج جديد وتضرب في إثرهما هما خط الانتقاء منذ نعومة الأظافر, وبذا فإنها تهيء الناشئة لان ينموا على فلسفة عقلية واجتماعية تقوم أساسا على الانتقاء من بين العناصر والمقومات العقلية والاجتماعية العديدة التي تحيط بهم . ولعل الخطأ الشائع في القول بل الجاثم على أفئدة الكثير من الكبار يتمثل في الاعتقاد في أن ما يتعلق بالفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية إنما يخضع لما تخضع له الرياضيات أو قل الحساب من حيث القول بالصح والخطأ , فالمسألة الحسابية لا تحتمل إجابتين كلتاهما صحيحة , بل لابد من إيراد إجابة واحدة هي الإجابة الصحيحة وعداها يكون خاطئا , وعلى نفس النحو يعتقد معظم الناس أن هناك إجابة واحدة فكرية وإجابة واحدة سلوكية وإجابة واحدة اجتماعية يمكن أن توصف بالصحة , وما عداها من إجابات يكون خاطئا.

والواقع أن تطبيق الفكر الرياضي الحسابي على الفكر والسلوك والاجتماع قديم قدم فيثاغورث وسقراط وأفلاطون , والخليق بالاعتقاد هو ان الفكر والسلوك والاجتماع والسبل الإنسانية بصفة عامة لا تخضع لما تخضع له المسائل الحسابية , بل تخضع لمعيارين آخرين هما معيار الجمال من جهة ومعيار المناسبة من جهة أخرى , ففي مسائل الفكر والسلوك والأخلاق يجب أن نبحث عن الجميل والمناسب لاعن الصحيح والخطأ , على إننا نميز بين الفكر وبين العقل , فالعقل يخضع للحساب والمنطق , بينما لا يخضع الفكر للحساب والمنطق , فالفلسفات على تباينها فكر , ولكن نظريات العلم الوضعي عقل , ومن هنا فأننا لا نقول أن الفلسفة المثالية خاطئة , وان الفلسفة الوجودية صائبة كما نفعل بإزاء قضية كقضية دوران الأرض حول نفسها فنحن لا نتناول تاريخ العلم –اي علم – بالدراسة بنفس الاتجاه الذي نتلبس به ونحن بإزاء دراسة تاريخ الفلسفة في اي عصر من عصور التاريخ , فنكن التقدير للفلسفات المتباينة وتفيد من دراسة فلسفة واحدة مثل طاليس وديموقريطس , بينما لانفعل ذلك بإزاء الآراء العلمية التي ثبت بطلانها , فما نأخذ به من العلم هو آخر ما انتهى إليه العلماء من آراء ونظريات ملقين وراء ظهورنا جميع الآراء والنظريات القديمة التي دحضت , فطالما أن الفكر والسلوك والعلاقات تتسم بالنسبية.

فأن علينا إذن أن نمارس حقنا في الانتقاء , فلنا الحق في أن نقيم لنا فلسفة بإزاء الحياة والمجتمع والوجود من العديد من المتغيرات التي تقع في حوزتنا , وكذا لنا الحق في أن ننتقي من العناصر السلوكية ما يتناسب مع ما جبلنا عليه من مزاج , بل وفي ضوء القيم لاجتماعية التي يختص بها مجتمعنا ويعتز بها , ولنا الحق كذلك في أن نحيا وفق فلسفة اجتماعية ننشئها لأنفسنا إنشاء من بين المقومات والعلاقات الاجتماعية العديدة التي نقع عليها من حولنا .

فإذا كانت جبلتك انطوائية – وقد سبق لنا أن بينا أن الانطوائية والانبساطية ليستا اتجاهين مكتسبين وليست إحداهما أفضل من الأخرى – فعليك إذن أن تشكل لنفسك فلسفة اجتماعية محددة تناسب ما جبلت عليه من انطوائية , وإذا كنت انبساطيا إذن حدد لنفسك الفلسفة الاجتماعية التي تناسب ما خلقت عليه من انبساطية .

على أننا نود في هذه العجالة أن نقدم إلى مجموعة من المبادئ التي يجب أن تنظمها فلسفتك الاجتماعية مهما كانت ملامحها متباينة عن باقي الفلسفات الاجتماعية الأخرى التي يأخذ بها غيرك من أشخاص يقعون في نفس الإطار الاجتماعي الذي نحيا فيه .

أولا – يجب أن تكون فلسفتك الاجتماعية التي تحيا وفق ملامحها متسقة غير متضاربة بعضها ببعض .

ثانيا – يجب أن تكون فلسفتك الاجتماعية مفيدة لك ولغيرك .

ثالثا – اجعل فلسفتك الاجتماعية بناءة بمعنى أن تكون فلسفة مشجعة على إقامة علاقات اجتماعية جديدة وان تكون أنت القطب المؤثر والمنشئ لتلك العلاقات الاجتماعية .

ويحسن بنا أن نعرض لبعض الفلسفات الاجتماعية التي يمكن أن تنتقي لنفسك واحدة منها , أو أن تبتدع لنفسك فلسفة اجتماعية جديدة تماما غير ما نسرده عليك هنا :

أولا – فلسفة الزعامة أو القيادة : فصاحب هذه الفلسفة يصر على أن يكون زعيما أو قائدا لمجموعة من الأفراد , فهو ينشئ جمعية أو ناديا أو يلتحق بجمعية أو بناد يسعى بمهاراته الاجتماعية نحو القبض على هذه الفلسفة يمكن أن يصل بعضهم إلى مراتب القيادة السياسية العليا .

ثانيا – الفلسفة الاقتصادية : وأصحاب هذه الفلسفة يركزون على الجوانب الاقتصادية في الحياة , أنهم يخططون لمشروعات اقتصادية واستثمارية بحيث تزداد أرصدتهم المالية التي يعمدون إلى إعادة استثمارها.ومن أصحاب هذه الفلسفة يظهر الرأسماليون وأصحاب الصناعات وأرباب التجارة.

ثالثا – فلسفة التأثير العقلي أو الوجداني: وأصحاب هذه الفلسفة يعمدون إلى اللسان أو القلم أو الريشة أو الأزميل سيؤثرون بها في الآخرين , وأصحاب هذه الفلسفة يظهر منهم الشعراء والقاصون والكتاب والموسيقيون والمطربون والممثلون والمعلمون والفلاسفة والزعماء الدينيون وغيرهم ممن يؤثرون في عقول وقلوب الناس .

رابعا – فلسفة التكافل ورعاية المحتاجين : وهي فلسفة تقوم على رعاية وخدمة وسد حاجات الموزين والفقراء والجرحى والأيتام والأرامل والشيوخ والأسرى والمنكوبين وأصحاب العاهات والأحداث والسجناء ونزلاء المستشفيات النفسية والعقلية وغيرهم من الأشخاص الذين يحتاجون الى العطف والرعاية والمساندة .

خمسا – الفلسفة الفردية الاجتماعية : وهي فلسفة مؤداها أني برعايتي لنفسي فأني قد أكون بذلك قد خدمت المجتمع أحسن خدمة , والفردية هنا قد لا تنصب على الفرد الواحد , بل على الأسرة باعتبارها فردا في مجتمع به اسر اي أفراد عديدون , فاهتمام الزوج بزوجته وأولاده يعتبر العمود الفقري لهذه الفلسفة الاجتماعية .

يوسف ميخائيل اسعد

Exit mobile version