ويليام ويليامسون.. المغامر الذي ساقته حياة الصعلكة إلى الله

عرف في صباه وشبابه حياة ما أقساها، عانى فيها من الظلم، وتعرض للتعذيب والسجن، والاختطاف والعمل القسري، ومارس عشرات الأعمال، وعانى في كثير منها من الفشل، لكنه ظل دائما يسعى على رزقه بلا هوادة، ولا يفارقه شوقه إلى الحرية ولا كرهه للظلم، ولامس الإيمان بالله قلبه في غمار رحلته القاسية التي جاب فيها بحار العالم وزار بلاده شرقه وغربه، شماله وجنوبه، حتى رسا قلبه على شاطئ الإسلام في عدن، ففتح الله أمامه من بعد ذلك أبواب رزقه.

ويليام ريتشارد ويليامسون وكراهية الظلم

إنه ويليام ريتشارد ويليامسون William Richard Williamson، والذي ولد في مدينة بريستول، بريطانيا في عام 1872، ومنذ صغره أظهر طبيعة متمردة وكراهية للظلم، وعندما كان تلميذا في مدرسة كليفتون كان يعرض نفسه مرارا وتكرارا للخطر ولغضب معلميه من خلال تسلقه جسر كليفتون المعلق الشهير فوق مضيق آفون، ومن ثم كان يتعرض كثيرا للضرب من والده، ولذا فقد شعر بسعادة غامرة حينما أرسله أبوه مع عمه ليعمل على السفينة المسافرة إلى أستراليا والتي كانت تعمل في تجارة الشاي وهو ابن 13 عاما، وكان أمل أبويه أن يتعلم من قسوة الحياة قيمة التعليم الجيد، لكنه وعلى الرغم من تعرضه للعقاب القاسي على ظهر السفينة الذي وصل إلى الجلد بسبب تصرفاته الخرقاء، فقد عزم على عدم العودة أبدا إلى بلاده.

 

ويليام ريتشارد ويليامسون والإيمان بالله

وعندما رست السفينة في سان دييجو بولاية كاليفورنيا الأمريكية فر ويليام إلى داخل البلاد، وعمل لبعض الوقت في مزرعة، ثم استطاع الوصل إلى عمته التي كانت قد تزوجت هناك وعمل معها، حيث أتقن جميع مهارات رعاة البقر، وهناك وفي رحاب جمال كاليفورنيا الطبيعي، تطور إيمانه العميق بالله، وكرهه للظروف القاسية التي يضعه الفقر فيها، لذا فإنه لما سمع بوجود مناجم للذهب في نيفادا انطلق خياله، ومن ثم سافر مع راعي بقر آخر إلى هناك أملا في تحقيق حلمهما، لكنهما تعرضا للسرقة في الطريق، وتبخرت أحلامهما في الثروة.

ويليام ويليامسون.. المغامر الذي ساقته حياة الصعلكة إلى الله
ويليام ويليامسون.. المغامر الذي ساقته حياة الصعلكة إلى الله

ويليام ريتشارد ويليامسون وحفر قناة بنما

ومن ثم سافر ويليام إلى سان فرانسيسكو وبدأ رحلة من الأعمال قصيرة الأجل، فمن العمل على سفينة متجهة إلى بوردو في فرنسا، إلى العمل مع رجل أيرلندي في مشروع حفر قناة بنما، وهناك أصيب بالملاريا، ثم جرب حظه في العمل مع فرقة مسرحية متجولة كونها مع ذلك الرجل الأيرلندي وزوجته، ثم إلى العمل كملاكم هاو في سان فرانسيسكو، ومن هناك تعرض للاختطاف تحت تأثير مخدر وضع له في كوب من البيرة بعد فوزه بثلاث مباريات في الملاكمة، ليجد نفسه مسوقا للعمل على متن سفينة لصيد الحيتان، وبعد عودة قصيرة إلى سان فرانسيسكو، عاد للعمل على سفينة متجهة للبحار الجنوبية لصيد خيار البحر، حيث وصل إلى جزر كارولين (ولايات ميكرونيزيا المتحدة فيما بعد)، والتي كانت حينئذ إحدى المستعمرات الإسبانية، وهناك ألقت السلطات الإسبانية القبض عليه بتهمة مد المتمردين من أهالي البلاد بالسلاح، ونقلته إلى سجن مانيلا عاصمة الفلبين والتي كانت هي الأخرى مستعمرة إسبانية.

تجربة السجن

حينما وصل ويليام إلى السجن كان عمره قد وصل إلى ثمانية عشر عاما، وكان يتعرض داخل السجن لتعذيب قاس، وأقسى منه الشعور الدائم بالخوف هناك، لكنه استطاع الهروب من سجنه، بعد رشوة السجانين.

في هذا الوقت كان “ألكسندر راسل ويب” – والذي سيصبح لاحقا مؤسس الصحافة الإسلامية في بلاده – يعمل قنصلا للولايات المتحدة في الفلبين، وكان من مهام عمله تفقد السجون بحثا عن مواطنين أمريكيين يحتاجون إلى العون لإطلاق سراحهم، وهناك التقى ويليام. فلما فر الأخير من السجن لجأ إليه، وبعد أن رفض القنصل البريطاني معاونته، سعى ألكساندر لمساعدته على الخروج من الفلبين على متن سفينة إنجليزية.

ويليام ريتشارد ويليامسون والتنقل بين هونج كونج وسنغافورة

بعد ذلك تنقل ويليام بين هونج كونج، وسنغافورة، وبومباي في الهند حيث وجد عملا، كما قضى بعض الوقت متسكعا في شوارعها، حيث كانت جميع ديانات العالم حاضرة، والمعابد والكنائس والمساجد توفر ملاذات للسلام، وفي كل مكان كان هناك اختلاط بين القداسة والبؤس والرفاهية التي تشتهر بها الهند.

وكما يقول عبد الحكيم مراد كاتب سيرته الموجزة فإنه إذا كان قد اشتعل الشوق الروحي أثناء تجواله الانفرادي في سييرا كاليفورنيا، وتساءل متى سيرسله الله إشارة، حينما كان لا يزال مراهقا، لكنه رأى بعد ذلك الكثير من العالم والبشرية، أي من الطرق العديدة التي كان عليه أن يسلكها؟ فما الذي سيقوده بالتأكيد نحو صانع مثل تلك الأعاجيب؟ جاءت العلامة التي كان ينتظرها أثناء عبوره البحر في رحلته التالية إلى عدن، حيث وجد في مكتبة السفينة الصغيرة كتابا لعبد الله كويليام، مؤسس أول مجتمع مسلم في ليفربول.

ويليام ويليامسون.. المغامر الذي ساقته حياة الصعلكة إلى الله

ويليام ريتشارد ويليامسون والتوحيد

قرأ ويليام الكتاب مرارا وتكرارا، مفتونا. وهنا، على ما يبدو، كانت الإجابة على الأسئلة التي أثيرت في ذهنه خلال سنوات من تجربة حياته المذهلة، هنا كان التوحيد أقرب بكثير إلى نظرته الإنجليزية العملية من أسرار الثالوث.

وعندما وصل إلى عدن عرفه أحد العرب على أحد رجال السلطة الإنجليزية، والذي كان للصدفة صديقا لوالده، ومن ثم قام بتعيينه على الفور في شرطة عدن، ووافق ويليام، حيث كانت هذه فرصة لكسب بعض المال، وللعيش في وسط المسلمين، وكيفيه ممارستهم لعقيدتهم، وقد اثبت ويليام مهارة في عمله في منطقة الميناء، مما عزز مكانته لدى السلطات، لكن على الوجه المقابل فقد كانت رغبته في تعزيز مكانته لدى أهل البلاد غير مرضية لتلك السلطات، وحينما زار أحد المساجد في البلاد، تلقى وعظا مسيحيا وتحذيرا بالترحيل إلى الهند، لكنه لم يلق بالا، وبعد عام من الدراسة مع العلماء، أرسل رسائل لوالده وعمته يدعوهم فيها على حقيقة الإسلام، وسافر إلى لحج للنطق بالشهادتين، وصار اسمه عبد الله فاضل، وهي حقيقة لم يضيع وقته عند عودته إلى عدن في إعلانها للمجتمع الأوروبي المحلي.

دراسة اللغة العربية

كان رد فعل السلطات الاستعمارية سريعا وحاسما، حيث تم نقل الشرطي المسلم إلى الهند، وقيل أنه كان يعاني من “ضربة الشمس”.

وفي بومباي، تمت الموافقة على طلبه بالتسريح من الشرطة، وعُرض عليه الانتقال المجاني إلى إنجلترا، فرفض حيث كان عازما على العودة إلى الشرق الأوسط، لكن سرعان ما أعاقت الأيدي الخفية خططه، ورفض أي ربان متجه إلى شبه الجزيرة العربية أن يأخذه معه، مع ذلك، فقد أفلت من التدقيق الرسمي من خلال شراء تذكرة تاجر خيول متجه إلى البصرة، وسرعان ما وجد نفسه في المدينة العثمانية العظيمة، حيث استكشف البازارات والمساجد، وحسن لغته العربية بمرور الوقت، لكنه وجد نفسه هناك وسط جدل ديني، حيث كانت البصرة مركزا لنشاط الإرساليات التبشيرية، كما وصلت إليه سلطات الهند البريطانية، وحاولوا ترحيله إلى إنجلترا، لكنه استطاع الإفلات منهم، وفي العامين التاليين، درس عبد الله اللغة العربية والإسلام تحت إشراف علماء الكويت. كما أمضى وقتا في السفر عبر مساحات شاسعة من الصحراء العربية الشمالية، حيث تعلم حب الجمل والحصان العربي، وجلب له بيع وشراء هذه الحيوانات دخلا متواضعا، تمكن من خلاله من التفكير في نقطة التحول الكبرى التالية في حياته، وهي الانضمام إلى قافلة الحج عام 1894 – والتي انطلقت حينها من مدينة الزبير المسورة، مقر عائلة الرشيد حكام نجد في ذلك الوقت – وهي الرحلة التي كررها مرتين تاليتين أعوام 1898، و1935.

ويليام ويليامسون.. المغامر الذي ساقته حياة الصعلكة إلى الله

عدن.. نقطة تحول

وكما كانت رحلة عدن نقطة تحول في حياته، فقد كانت رحلة الحج الأولى نقطة تحول أكبر، وكما يقول عبد الحكيم مراد ” وفرت العودة إلى الزبير للحاج متسعا من الوقت للتفكير في خطوته التالية. لقد أدرك أن تطلعاته قد تغيرت جذريا بسبب الحج أكثر من تجربة الاهتداء نفسها. فقبل الحج كان يأمل في العودة إلى أمريكا واستئناف حياة رعاة البقر التي كان يحبها (..) لكن يبدو أن زيارة الكعبة قد رسخت (لديه) مجموعة مختلفة من الأولويات، حيث قرر أن يستقر في الشرق متوكلا على الله أن يرزقه، وفي الوقت المناسب، فعل ذلك.

مارس ويليام (أو الحاج عبد الله) بعد ذلك العمل بتجارة الخيول، والبضائع الأأوروبية الجديدة على أسواق الكويت والعراق، وبعد أن اكتسب خبرة ومالا لمدة 12 عام اشترى لنفسه مركبا شراعيا متوسط الحجم، وبدأ في ممارسة صيد اللؤلؤ في مياه الخليج، لكن فيما يبدو فلم يوفر صيد اللؤلؤ له ما كان يتمناه، فقبل قضاء الله، وسافر بدلا من ذلك إلى دمشق، حيث أمضى عامين ثمينين في مدارس المدينة لتحسين معرفته بالإسلام، وعند عودته، باع مركبته الشراعية ووجد عملاً مع شركات النفط الأجنبية، التي كانت تحتاج إلى أدلة مؤهلة لأنشطتها في التنقيب عن النفط، بمجرد أن ترددت شائعات عن احتمالات وجوده في المنطقة.

التقاعد

وفي عام 1937 تقاعد ويليام في منزل بقرية كوت الحجاج بالقرب من البصرة لتربية أولاده وأحفاده من زوجتين، ولرعاية بعضا مما امتلكه من النخيل وأشجار البرتقال، إلى أن تراجعت صحته، وكما يقول عبد الحكيم مراد فقد “كان يشاهد بانتظام في مسجد العشار بالبصرة، ونادرا ما كان يفوت فرصة حضور فصل تعليمي جيد عن الدين، وبالعودة إلى المنزل، كان يجلس مع مسبحة باللونين الكهرماني والأسود، ومجموعة الكتب الدينية الخاصة به”.
تلك الحياة العجائبية الذاخرة بالقصص الصغرى كانت موضوعا لكتاب ألفه الكاتب البريطاني ستانتون هوب Stanton Hope عام 1951 (قبل وفاة ويليام بسبعة أعوام)، في كتاب حمل عنوان “المغامر العربي.. قصة الحاج ويليامسون” Arabian Adventurer.. The Story of Haji Williamson كما أنشأت له عائلته العراقية موقعا تخليدا لذكراه.

الشاهد في كل تلك القصة، والتي فيها من التفاصيل ما هو أكثر من ذلك بكثير، هو أن الله سبحانه وكأنه ساقه إليه عبر رحلته الشاقة والعسيرة والمضنية والتي جاب فيها بحار العالم وقاراته، ليجد راحته، ويفتح له أبواب رزقه من عدن إلى البصرة، من خلال رحلته إلى الإيمان والإسلام والحج، مصداقا لقوله سبحانه في سورة الشرح الآيات 5 و6 “فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا”.

د. مجدي سعيد

Exit mobile version