أبو الدرداء| حين أراد المتصوفة على مدار التاريخ منح شرعية لمسلكهم الروحاني، فتشوا في أعمال وأحوال الرجال الذين كانوا حول الرسول الكريم، ليختاروا من بينهم من يشيرون إليهم بالبنان ويقولون: إنهم روادنا، أو يقولون معهم: هنا كانت بداية الطريق الذي نسير فيه مطمئنين.
Table of Contents
أبو الدرداء ورجاحة العقل
أحد هؤلاء هو أبو الدرداء، الذي آتاه الله رجاحة في العقل، وصفاء في النفس، وقوة في وجه الدنيا، جعلت فيلسوفا من زماننا بقامة عبد الرحمن بدوي يقول عنه: “لأبي الدرداء كلمات في العبادة والتقوى تدل على بلوغه قدما راسخة في المعرفة الصوفية”.
وشهد لأبي الدرداء الكثيرين من معاصريه، علاوة على شهادة الرسول الكريم، الذي قال عنه يوم أحد: “نعم الفارس عويمر” وقال عنه أيضا: “هو حكيم أمتي”.
وها هو عبد الله ابن عمر يقول لأصحابه: حدثونا عن العاقلين: معاذ بن جبل وأبي الدرداء. أما يزيد بن عميرة فقال: لما حضرت معاذ بن جبل رضي الله عنه الوفاة، قيل له: يا أبا عبد الرحمن، أوصنا. فقال: “التمسوا العلم عند عويمر، فإنه من الذين أوتوا العلم”.
الصحابة: أتْبَعُنَا للعلم والعمل أبو الدرداء
وقال عنه الصحابة: أتْبَعُنَا للعلم والعمل أبو الدرداء، وكانوا يرددون دوما: أرحمنا بنا أبو بكر، وانطقنا بالحق عمر، وأميننا أبو عبيدة، وأعلمنا بالحرام والحلال معاذ، وأقرؤنا أبيُّ، ورجل عنده علم ابن مسعود، وتبعهم عويمر بالعقل.
من هو أبو الدرداء؟
هو عويمر بين زيد ابن قيس الأنصاري الخزرجي، كان معاصرا للنبي عليه الصلاة والسلام، ودخل الإسلام بعد موقعة بدر، وكان آخر من أسلم من أسرته. ولما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار وقع الاختيار عليه ليؤاخي سلمان الفارسي.
ويقال إن أبا الدرداء كان يعمل أيام الجاهلية بالتجارة، وكان رابحا، فلما أسلم وجد أنها تحول بينه وبين إعطاء العبادة حقها، فتركها، وتفرغ كذلك لجمع الوحي في حياة النبي، وكان حجة في القرآن، وتنسب إليه ألوان من القراءة، تختلف عما نطق به الآخرون، علمها لكثيرين أثناء فترة إقامته بدمشق، التي أوفد لتولي القضاء فيها، بعد أن أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه والي الشام معاوية ابن أبي سفيان أن يعينه في هذا المنصب.
أبو الدرداء .. من التجارة إلى العبادة
ويروي هو قصة الانتقال من التجارة إلى العبادة قائلا: “بُعث النبي وأنا تاجر، فأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة. والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتا على باب مسجد لا يخطئني فيه صلاة أربح فيه كل يوم أربعين دينارا، وأتصدق بها كلها في سبيل الله”. وقد قيل له ردا على قصته تلك: وما تكره في تلك؟ فأجاب: شدة الحساب.
ويعزز أبو الدرداء موقفه هذا بأقوال عديدة منها: “ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله عز وجل، فإن أحسنت حمدت الله تعالى، وإن أسأت استغفرت الله عز وجل”. ومنها أيضا: “اعلموا أن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وأن الإثم لا ينسى”، ومنها كذلك: “من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه، وحضر عذابه، ومن لم يكن غنيا عن الدنيا فلا دنيا له”. وكان يرفع يديه إلى السماء داعيا: “اللهم انى أعوذ بك من شتات القلب”، ولما سئل: وما شتات القلب يا أبا الدرداء؟ أجاب: أن يكون لى في كل واد مال. وكان يردد: ” لأن أقول: الله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار”.
حياة أبو الدرداء
وبعد إسلامه عاش أبو الدرداء حياة مادية بسيطة، على عكس مما كان عليه في الجاهلية، وتدل على ذلك واقعة تقول إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه، فدفع الباب فإذا ليس فيه غلق، فدخل في بيت مظلم فجعل يلمسه حتى وقع عليه، فجسّ وسادة فإذا هي برذعة، وجسّ دثاره فإذا كساء رقيق. قال عمر: ألم أوسِّع عليك؟! ألم أفعل بك؟!
فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: أيُّ حديث؟
قال: “ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب”
قال: نعم.
قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟
قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.
ويُحكى أن يزيد بن معاوية تقدم ليخطب ابنة أبي الدرداء فردَّه، فأعاد يزيد طلبه، فرفض مرة ثانية، ثم تقدم لخطبتها رجل فقير عرف بالتقوى والصلاح، فزوجها منه، فتعجب الناس من صنيعه، فكان رده عليهم: ما ظنَّكم بابنة أبي الدرداء إذا قام على رأسها الخدم والعبيد وبهرها زخرف القصور، أين دينها يومئذ؟!
وعقب إسلامه زاره سلمان الفارسي، فرأى أم الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟
قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ.
قال: فإني صائم.
قال: ما أنا بآكل حتى تأكل.
قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ. فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ. فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن. فصليا، فقال له سلمان: “إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه”. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي: “صدق سلمان”.
التسامح والطيبة
وكان أبو الدرداء متسامحا طيبا، يترفع عن الصغائر، ويعفو عن الناس. فيحكى أن رجلا قال له ذات مرة قولاً جارحًا، فأعرض عنه ولم يرد عليه، فعلم بذلك عمر بن الخطاب، فغضب وذهب إلى أبي الدرداء وسأله عما حدث فقال: اللهم غفرانًا، أو كل ما سمعنا منهم نأخذهم به ؟!
وذات يوم مرَّ أبو الدرداء على أناس يضربون رجلاً ويسبونه، فقال لهم: ماذا فعل؟ فقالوا: أذنب ذنبًا، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في بئر أكنتم تستخرجونه منها؟ قالوا: نعم نستخرجه، قال: فلا تسبوا أخاكم، وأحمدوا الله الذي عافاكم، فقالوا له: ألا تبغضه وتكرهه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي. وكان يقول: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي، أسمِّيهم بأسمائهم.
ويقول جبير: لما فتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء رضي الله عنه جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا تركوا أمره.
كما كان أبو الدرداء وفيا لأصدقائه، محبا لهم. ويقال إنه كان له ثلاثمائة وستون صديقًا، فكان يدعو لهم في الصلاة، ولما سئل عن ذلك قال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب إلا وكل الله به مَلَكيْن يقولان، ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟
بل إن تسامح أبي الدرداء ورحمته امتدت إلى الرأفة بالحيوان، فها هو قد قال لبعيرٍ له عند الموت: “أيها البعير، لا تخاصمني إلى ربك؛ فإني لم أكُ أحمِّلك فوق طاقتك”، وفي قوله هذا رسالة بليغة إلى أولئك الذين تحجرت قلوبهم فقسوا على الإنسان والحيوان بلا روية ولا هدى.
التصوف الفطري
ولم يكن تصوف أبي الدرداء فلسفيا كذلك الذي ظهر في مرحلة لاحقة، ولم يكن ناجما عن الاحتكاك بثقافة مغايرة، أو الانطلاق من رؤية نقدية لتحويل البعض الدين إلى مجرد مجموعة من الطقوس، حتى في صدر الدعوة الإسلامية، إنما كان تصوفا فطريا، قائما على التفكير الصافي، والتدبر العميق، وهو ما يعبر عنه أبو الدرداء نفسه بقوله: “تفكر ساعة خير من قيام الليل”. وتبين زوجته أم الدرداء أن هذا كان نهج زوجها على الدوام، فقد سئلت ذات يوم: ما كان أفضل عمل لأبي الدرداء؟ فأجابت: التفكر والاعتبار.
وكان أبو الدرداء يقول “أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر”. وقال أيضا: أعوذ بالله أن يأتي عليَّ يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب بين ثديي، وإذا لقيني مدبرًا ضرب بين كتفي، ثم يقول: يا عويمر، اجلس فلنؤمن ساعة. فنجلس فنذكر الله ما شاء، ثم يقول: يا عويمر، هذه مجالس الإيمان.
قصة إسلام أبو الدرداء
وقصة إسلام أبو الدرداء نفسها تنطوي على تفكر وتدبر واعتبار، فقد كان يعبد صنما احتفظ به في داره. وذات يوم دخل عليه عبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة، فشاهدا الصنم فكسراه إلى قطع صغيرة، فبدأ أبو الدرداء يجمع القطع المتناثرة من الأحجار، وهو يقول للصنم: ويحك! هلا امتنعت؟ ألا دافعت عن نفسك؟ فقالت زوجته: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد لدفع عن نفسه ونفعها. فنظر إليها وقال: أعدي لي ماءً في المغتسل، ثم قام فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي، فنظر إليه ابن رواحة مُقبلا، فقال: يا رسول الله، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا. فأخبره رسول الله أن أبا الدرداء إنما جاء ليسلم.
وكان عويمر من المنادين دوما بواجب اقتران الفعل بالقول، إذ لا خير فيمن ينهى الناس عن الإثم ويأته، ويدعوهم إلى البر ويتجنبه، وهنا يقول: “لا يكون تقيا حتى يكون عالما. ولن يكون بالعلم جميلا حتى يكون به عاملا”. ويقول أيضا: ” ويل لمن لا يعلم ولو شاء الله لعلمه، وويل لمن يعلم ولا يعمل … إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت فما عملت فيما علمت”، ويقول كذلك : “ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات”، ثم يطلب من الناس أن يدركوا تعدد الفهم، وألا يحبوا أو يبغضوا إلا في الله، إذ يقول: ” إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها، وإنك لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله، ثم ترجع إلى نفسك فتكون أشد مقتا منك للناس” .
وقد وقف أبو الدرداء ذات يوما خطيبا في أهل دمشق فقال لهم: أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودتي، وإنما مؤنتي على غيركم، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجُهّالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تُكفّل لكم به، وتركتم ما أمرتم به، ألا إن قومًا بنوا شديدًا، وجمعوا كثيرًا، وأمَّلُوا بعيدًا، فأصبح بنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا، وجمعهم بورًا، ألا فتعلّموا وعلِّموا؛ فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما”.
ولأبي الدرداء أقوال عديدة، تفيض بالحكمة والزهد والورع، منها:
“اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم من الموتى”
“لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا، ولا تحاسبوا الناس دون ربهم. ابن آدم عليك نفسك. فإنه من تتبع ما يرى في الناس يطل حزنه، ولا يشفى غيظه”
” ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للرب عز وجل”
“يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامهم؟ ومثقال ذرة من بر صاحب تقوى ويقين أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغتربين”
“ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك، وأن تبارى الناس في عبادة الله”
” لا تأكل إلا طيبا ولا تكسب، إلا طيبا، ولا تدخل بيتك إلا طيبا”
“أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مُؤمِّل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فِيهِ ولا يدري أرضي الله أم أسخطه؟ وأبكاني فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله، ولا أدري إلى الجنة أم إلى النار؟”
وكان أبو الدراداء يقوم جوف الليل، فيقول: “نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم”، وكان رجلا هيناً ليناً رحيماً بسيطاً، قلبه معلق بالمساجد، وقربه من الرسول أو كونه واحداً من جامعي القرآن لم يصبه أبدا بالغرور، بل ظل متواضعاً حتى آخر عمره.
وهناك رسالة بعث بها ذات يوم إلى سلمان الفارسي، توضح ذلك بجلاء، حيث قال له فيها:: يا أخي، اغتنم صحتك وفراغك قبل أن ينزل بك من البلاء ما لا يستطيع العباد ردَّه، واغتنم دعوة المبتلى. يا أخي، ليكن المسجد بيتك، فإني سمعت رسول الله يقول: “المساجد بيت كل تقي”، وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله عز وجل. ويا أخي، ارحم اليتيم وأدنه وأطعمه من طعامك؛ فإني سمعت رسول يقول وقد أتاه رجل يشتكي قساوة قلبه، فقال عليه الصلاة والسلام: “أتحب أن يلين قلبك؟” فقال: نعم. قال: “أدن اليتيم منك، وامسح رأسه وأطعمه من طعامك؛ فإن ذلك يلين قلبك وتقدر على حاجتك”. ويا أخي، لا تغترن بصحبة رسول الله، فإنا عشنا بعده دهرًا طويلاً، والله أعلم بالذي أصبنا بعده”.
وبعد عمر حافل بالعمل والتفكر، توفي أبو الدرداء سنة 32 هـ بدمشق في خلافة عثمان بن عفان، عن عمر يناهز اثنين وسبعين عاما. وقبيل وفاته ذَكَّر أبا الدرداء من حوله بقول الرسول الكريم: “اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واعدد نفسك في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم؛ فإنها تستجاب، ومن استطاع منكم أن يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبوًا، فليفعل”.
وقالت أم الدرداء لما احتضر زوجي جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا؟! من يعمل لمثل ساعتي هذه؟! من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ ثم يردد قول الله تعالى: “وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة” وكان يقول: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده.
د/ عمار على حسن