إدوارد فيشر: عنّ ماهية الحياة الكريمة
يُعد كتاب إدوارد فيشر إضافة إلى الاهتمام الأنثروبولوجي المتزايد حول فهم الناس لمفهوم “الرفاه – well-being”، حيث يبحث من منظور “كيف يتفاعل الناس مع السوق لتحقيق رؤاهم الخاصة للرفاهية” (ص.1). وهو الأمر الذي ينظر إليه بوصفه عملية معقدة، حيث يضطر البشر لترويض وكبح جماح طموحاتهم من أجل “فعل ما هو صحيح” للوصول إلى وضع (شبه) سعيد. اعتمد فيشر في بحثه على المقارنة بين أفراد من سكان ضاحية سكنية مستقرة للطبقة الوسطى في هامبورج بألمانيا، وبين مجتمع شديد الاختلاف وهم الفلاحون زارعو البُنّ في مرتفاعات جواتيمالا، الذين يعانون الأمرين من أجل العيش في ظروفٍ قاسية وغير آمنة.
يتكون هذا العمل من جزئين. يعتمد الأول على البحث الأنثروبولوجي الميداني لدراسة رؤية المجتمع في هامبورج لمعنى القيم والاختيار والمفاضلة، وهو ما أوضحه فيشر في مسألة اختيار أسعار السلع، من البيض إلى السيارات، وذلك للإجابة على هذا السؤال: “بالنسبة للمتسوقين الألمان، متى يكون السعر مُرضيًا؟” (ص.23). كما يناقش كيف أنّ الأفعال لا تتطابق بالضرورة دائمًا مع المرغوب فيه فعليًا، لكنه في نفس الوقت يجادل بأن الاختيارات والأولويات المعلنة والظاهرة لا تتعارض مع هذا المعطى “المزيد من التركيز على الأهداف طويلة المدى والغايات المعنوية” المذكور سالفًا (ص.44). ومن الناحية الأنثروبولوجية، يُعد هذا الجزء هو الأكثر ثراءً من بين جزئي الكتاب لأنه يكشف عن صوت السكان أنفسهم.
يركز الجزء الثاني على جواتيمالا، ولهذا استمد المؤلف العديد من معلوماته من الدراسات الاستقصائية والمسوح الاجتماعية في أوساط مزارعي البن هناك. كما ركزّ فيشر في بحثه على بعض التفاصيل المتعلقة بتاريخ الصناعة وبحث أيضًا، وبشكل خاص، في التجارب شديدة الاختلاف للطبقة الوسطى الألمانية من سكان المدن.
ويوضح لنا هنا حياة تهيمن عليها الريب والشكوك الناتجة عن تقلبات الموضة في سوق العالم الأول وما يستتبع ذلك من متطلبات. تُعلي الرموز الأخلاقية المحلية من قيمة العمل الجاد، وتدين المكاسب غير المشروعة، وهؤلاء الذين يمتنعون عن مساعدة الأهل والجيران على المعيشة – وهذا دليل على وجود أفكار متعلقة بمفهوم الاقتصاد الأخلاقي (ص.62). ورغم أن التطلعات إلى الرفاه كثيرًا ما تعتمد على محاولات كسب العيش الواقعية، إلا أنها تشمل أيضًا بعدًا أخلاقيًا، كما هو الحال مع أهل هامبورج.
في رخاء هامبورج تظهر لنا الرفاه well-being بوصفها الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين، والتي تأتي في بعض الأحيان على حساب المكاسب والأرباح الفردية الفورية الممكنة؛ مثل الاهتمام بالبيئة وأحوالها في المستقبل، وهو ما يعرف بـ “الصالح العام”.
كذلك في تلال جواتيمالا نجد أن السعي لحياة الرفاه يكمن في اعتبارات مماثلة، وذلك بالرغم من تضاؤل فرص الاختيار أمام الفلاحين بسبب ما يشهدوه من قسوة في تأمين الحد الأدنى من الضروريات الأساسية للحياة واستغلالهم لأية فرصة من شأنها أن تساعدهم على التغلب على الأوضاع الاقتصادية العسيرة – كتب فيشر قائلًا: “لو كانت الوظيفة بلد، فلابد وأنها جواتيمالا” (ص.181). كما يوضح كيف يسعى أبناء المجتمعين، في هامبورج وجواتيمالا، داخل عوالمهم المنفصلة، للشعور بالرفاه، مهما اختلفت عناصر البحث أو الوسائل المتاحة.
ويبحث فيشر، عبر كلماته قائلًا: “الأنثروبولوجيا القادرة على تقديم بدائل مفاهيمية غير مستندة على نماذج جامدة، بل على التفاهمات الإثنوغرافية الاستقرائية عما يريده الناس من حياتهم” (ص.65)، مضيفًا: “ما يريده الناس يحتل موضعًا في التداخل بين الهياكل السياسية الاقتصادية العالمية، والأفعال الجماعية، والفنون الثقافية، وكلها تلتف حول فكرة الحياة الكريمة.” (ص.68).
لم ينزلق فيشر نحو إشكالية المقارنة بين ما يقوم به الفاعلون بالفعل، وبين ما يتوقعون حدوثه، إن “الاختيارات المعلنة” التي توضحها أفعال الناس، “الاختيارات المعلنة” التي يميل الاقتصاديون لإعطائها الأولوية (ص.44). وهذا يصف ويحدد دور التطلعات في المجتمعين الخاضعين لدراسته.
يشترك هذا العمل في مناقشة دخلتها مجموعة واسعة من علماء الاجتماع بمن فيهم علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاقتصاد السلوكي، حيث أنه يصر على أن ما يفعله الناس في الواقع لا يعكس بالضرورة قيمهم وتطلعاتهم.
هذا يخبرنا الكثير، ليس فقط عن كيفية سريان الأمور وحسب، ولكن عن الطريقة التي يمكن أن تصبح عليها الأمور أيضًا، “التطلعات التي هي جوهر مشاريع الحياة” (ص.50). وهنا يكتشف القارئ أن فيشر قد أدغم ودمج كلمتي “تطلعات” و”أمل” وسيجد دارسي الأمل والنوستالجيا تواصل الرؤى داخل تلك المفاهيم.
ولم يختزل فيشر تطلعات الناس، كما يراها علم النفس، بوصفها مجرد تمارين عقلية لكيفية إدراك المرء للأمور، بل مضى بعيدًا وعلى نطاق واسع نحو جوانب النظرية التنموية، لا سيما نظريات أمارتيا سين، للتأكيد على ما يراه من أهمية لـ “القدرة على العمل والإمكانيات المادية كعناصر أساسية لحرية تشكيل الحياة التي يقدّرها الفرد” (ص.158).
الببلوغرافيا الخاصة بالكتاب هي في حد ذاتها كتيب صغير وكأنه قائم بذاته، وهذا يرجع لموضوعه المتشعب. ونأمل أن يحفز هذا على البحث في مواضيع العنوان الفرعي للكتاب، ربما لتشمل الأساليب التي سوف تمتد لما هو أبعد من سعي الناس للحياة الكريمة فقط في المجتمعات التي تسيطر فيها الأسواق التجارية على الاقتصاد. وهذا ربما يتضمن فهمًا لحالة “شبة العزلة” في منطقة الأمازون، أو تلك الدول غير الرأسمالية تنظيميًا مثل كوبا، أو غيرها، ربما بين مجتمعات في القوقاز، مثل أبخازيا، حيث تهيمن القواعد والمعايير العرفية على الدولة في بلد “متقدم”.
كتب فيشر، أن في جواتيمالا “الدولة غائبة إلى حد كبير” (ص.185)، بينما يروج للقيم المجتمعية في هامبورج بتشريعات الدولة. وفي حين دلل على هذا بالنسبة لألمانيا، إلا أنه في حالة جواتيمالا ترك الأمر مثارًا دون توسع، ودعا الآخرين للقيام بذلك – وهذا قد يشجع أيضًا على الامتداد في البحوث الإثنوغرافية في المجتمعات التي لا تخضع فيها الأعراف لمؤسسات الدولة – للبحث في جدلية التحول بين العرف ودولة القانون.
لقد وفر بحث الكاتب بكافة مصطلحاته قائمة متماسكة وصلبة البنيان لمواضيع ومفاهيم، نأمل أن تقودنا إلى المزيد من الأبحاث والتناول الأنثروبولوجي.