“البسايسة” تغزو الريف والصحراء

كثيرا ما نسمع العلماء أو الخبراء في عالمنا العربي يتحدثون عن أهمية وجود ربط بين البحث العلمي والصناعة، أو بين مؤسسات التعليم وسوق العمل، أو بين رجال الأعمال والمستثمرين، ولكن لم نشاهد أحدا من هؤلاء العلماء ينزل إلى الواقع ليعلم الناس كيف ينهضون بقواهم الذاتية لتحقيق التنمية؟.

الدكتور صلاح عرفة أستاذ الفيزياء بالجامعة الأمريكية بالقاهرة قرر أن يعطي نموذجا في كيف يمكن أن يسفر التقاء أغنياء المعرفة وفقراء المادة عن نموذج للتنمية الذاتية.. فلنسمع منه خبرته التي عرضها في منتصف شهر مارس 2005 في منتدى الإصلاح العربي بمدينة الإسكندرية (شمال مصر)، ولنشاهد ماذا فعل هذا الرجل الذي غزا الريف، ثم الصحراء مع مجموعة من الشباب المصري.

في عام 1971 توجه الدكتور صلاح إلى قرية البسايسة التابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية بمصر، وكل ما كان يفكر فيه في هذه اللحظة هو كيف يستفيد أهل قريته والقرى المجاورة من الطاقة الشمسية.

لم يكن لديه المال اللازم ولكن كانت لديه إرادة الإنسان المصري، فبدأ بالمسجد واستأذن الإمام في الحديث عن مشروعه بالنهوض بالقرية، ولم تستغرق كلمته أكثر من دقيقتين أخبر فيها المصلين أن لديه تجربة يريد فيها النهوض بهذه القرية وإن نجحت فهي لهم، وإن فشلت فقد نال شرف المحاولة، ثم طلب أن يكون اللقاء المفصل عن مشروعه في مضيفة القرية (حجرة يتم فيها اللقاء بالضيوف).

لم تكن المضيفة معدة للاجتماع، فطلب الدكتور صلاح تنظيفها، وحرص على المشاركة في ذلك؛ وهو ما أكسبه مصداقية أكثر لدى أهل القرية.. ثم قال لهم: لنبدأ بما هو مستطاع؛ فعندكم شباب متعلم والقرية بها نسبة عالية من الأمية، لنعمل على محو الأمية، وأضاف أن لديه ما يقدمه في الاستفادة من الطاقة الشمسية والبايوجاز لتنمية القرية، وتم الاتفاق على أن يوم الجمعة هو ميعاد الاجتماع الثابت له مع أهل القرية حتى يحضر أكبر عدد من الفلاحين.

محو الأمية بالدراجات

طلاب الجامعة والمدارس بالبسايسة أعلنوا عن رغبتهم في المشاركة في مشروع محو الأمية، لكن قالوا إن وقتهم محدود؛ بسبب سيرهم يوميا على الأقدام 3 كم للوصول لأقرب وسيلة مواصلات ليذهبوا لمؤسساتهم التعليمية ونفس الرحلة في العودة.

وفي لقائه الثاني بهم، فكر الدكتور صلاح مع أهل القرية في شراء دراجات للطلاب الراغبين في مشروع محو الأمية، حتى يتسنى لهم توفير وقت لتعليم أهل قريتهم، ولكن من أين المال؟.

كان الحل هو التشارك بين أهل القرية في شراء الدراجات وإعطائها بالتقسيط حسب أولوية الاستفادة من الوقت للمشترك في مشروع محو الأمية، وروعي أن يكون القسط في حدود الإنفاق الشهري على المواصلات.

كان ثمرة هذا المشروع تعليم عدد كبير من أهل القرية، حتى صار منهم امرأة تعد أطروحة الدكتوراة في لندن، وآخر أستاذ مساعد في إحدى كليات الزراعة بإحدى الجامعات المصرية.

طاقة شمسية وبيوجاز

مشروع الطاقة الشمسية بدوره مثّل مدخلا للدكتور صلاح لتنمية البسايسة، فصمم نموذجا صغيرا لتشغيل مروحة وعرضه على شباب القرية، وطلب من أحدهم أن يمر على بيوت القرية لتعريفهم بإمكانية الاستفادة من الطاقة الشمسية.

ومن هنا شرعوا في تعميم الطاقة الشمسية  في القرية، ووجدوا أنفسهم في حاجة لصناعة إطار حديدي وخشبي لحمل الأجهزة التي تعمل على هذه الطاقة، فتم عمل ورشة لتدريب الشباب على أعمال الحدادة والنجارة.

وما إن تم تشغيل تلفزيون ومراوح الهواء بالبيوت في القرية، حتى اهتم أهل البسايسة بالطاقة الشمسية، ثم تم التوسع في استخدام هذه الطاقة في تسخين المياه وأغراض أخرى.

من جهة أخرى نجح الدكتور صلاح في إدخال البايوجاز الناتج من مخلفات الحيوان والإنسان كمشروع للاستفادة منه في توليد طاقة، وأيضا كسماد بلدي لأعمال الزراعة.

غير أن هذه التجربة التي كانت تنمو رويدا رويدا تحتاج إلى غطاء قانوني منظم، فقرر أهل القرية في عام 1983 إنشاء جمعيتين؛ الأولى لتنمية المجتمع، والأخرى جمعية تعاونية إنتاجية حتى يمكنهم من خلالها جمع أموال واستثمارها، أي بمثابة الأداة التمويلية لمشروعاتهم، ولم يقتصر نطاق عمل الجمعيتين على سكان هذه القرية، إنما امتد لسكان القرى المجاورة (الطيبة وأم رماد ودويدة وبني عبيد).

كما استطاعت جمعية تنمية المجتمع تدريب وتأهيل الشباب وتسليحهم بالمهارات التي تحتاجها سوق العمل، فضلا عن تنظيم الجمعية معرضا عن استخدام الطاقة الشمسية في تنمية القرية المصرية، وكذا إنشاء مركز التكنولوجيا الريفية المتكاملة للإنتاج والتدريب.

أيضا اهتمت الجمعية بإقامة دورات عن التنمية الزراعية واستصلاح الأراضي.. ومن هنا تولدت فكرة جديدة عند أهل البسايسة ومعهم الدكتور صلاح: لماذا لا نغزو الصحراء، خاصة في ظل وجود بطالة داخل القرية في أواخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين؟!.

الهجرة للصحراء

لكن شباب القرية الذين فكروا في غزو الصحراء هم من الفقراء الذين لا يملكون شيئا، وأعضاء الجمعية التعاونية التي تمثل الأداة التمويلية للبسايسة ليسوا سوى مستثمرين صغار.

كان الحل أيضا في التشارك والتعاون فيما بينهم، فاهتدوا إلى شراء مساحات من الأراضي الصحراوية من البدو في منطقة رأس سدر جنوب سيناء التي تبعد عن الزقازيق 200 كم، وبلغت المساحات المشتراة 150 فدانا (تم التوسع فيما بعد إلى 750 فدانا)، بسعر 500 جنيه للفدان.

ثمن الأرض تم دفعه على أقساط، بعد أن أقنع شباب البسايسة البدو بأهمية تجربتهم، وإمكانية الاستفادة بهم في تقديم خدمات الطاقة الشمسية والبايوجاز؛ لذلك أُسست الجمعية التعاونية الزراعية برأس سدر عام 94، ثم جمعية كنوز سيناء للتنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة عام 95، بحيث يتم هناك انتعاش وتنمية المنطقة المحيطة بالمشروع.

وأطلق على المشروع اسم “البسايسة الجديدة”، وتم تشغيل الشباب أعضاء الجمعية التعاونية براتب 450 جنيها شهريا، يدفعون ثلثها لقسط الأرض والباقي لرعاية أنفسهم وأسرهم في البسايسة القديمة.

ويقول الدكتور صلاح: في البداية تم حث الشباب على العمل الجماعي بالأرض كلها (كاملة) قبل تقسيمها إلى قطع مملوكة للأفراد؛ فالفكرة هي أنك إن كنت تعرف حدود الأرض التي تملكها فإنك لن تعمل سوى في تلك الأرض وستهمل باقي الأجزاء، أما بهذه الطريقة فسيكون هناك اهتمام كامل من الجميع بتجهيز الأرض بالكامل للزراعة.

وبعد ذلك قسمت الأراضي ما بين 5 و10 أفدنة، ووضعت الجمعية عددا من القواعد، منها أنه لا يجوز تملك أي عضو أكثر من 20 فدانا، ويتم توزيع الأراضي بالقرعة، كما يجوز التبديل بين الأعضاء. أما زراعة الأرض فحسب مقدرة كل شخص المالية، ولكن البنية الأساسية من آبار وطرق ومصدات الرياح فقد تم إعدادها قبل توزيع الأراضي، ووزعت تكلفتها على الفدان.

أما البيوت في القرية فقد تم تدريب مجموعة من الشباب على البناء وتم اختيار طراز عمارة حسن فتحي المطبق في القرية بالأقصر جنوب مصر ؛ لأنه أنسب الأساليب التي يمكن أن تخفف من شدة حرارة الصحراء. وبالنسبة للإضاءة والإنارة الليلية فقد اعتمدت البسايسة الجديدة على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

وبما أن الأرض شاسعة المساحة كما يشير الدكتور صلاح فقد تم السماح لكل فرد أن يقيم منزلا على مساحة 200 متر تحيط به حديقة على نفس مساحة البيت لكي يزرع فيها ما يريد من خضراوات وفاكهة ويربي ما يريد أيضا من حيوانات منزلية.

زراعة الزيتون

الزراعة في البسايسة الجديدة اعتمدت على زراعة الزيتون والنخيل والجاجوبا. وكما يقول الدكتور عرفة فإن زراعة الفدان من الزيتون تحقق عائد ربح صافيا 500 جنيه لو بيع خاما، أما لو تم استخلاص الزيت منه فإنه يحقق ضعف هذا المبلغ، وهو ما لجأنا إليه في مرحلة تالية حيث أنشأنا معاصر لزيت الزيتون.

أما نبات الجاجوبا فهو نبات يتم استخدامه في مستحضرات التجميل وصناعة الأدوية ويستخلص منه زيت يستخدم وقودا لمحركات الطائرات.

وفي عام 2000 كان بداية أعوام الحصاد أي بعد 7 سنوات من بدء تجربة استصلاح الأرض في البسايسة الجديدة.

ولأن التجربة أثمرت ونجحت فقد حصلت الجمعية في البسايسة الجديدة على تخصيص 1000 فدان لإقامة تجمع آخر في الفرافرة بموافقة من محافظة جنوب سيناء بعد الاطلاع على تجربة الجمعية، وهناك محاولة أخرى للحصول على أراض في منطقة الكريمات.

عبدالحافظ الصاوي
نقلا عن إسلام أون لاين

Exit mobile version