التفكير الناقد في الحياة اليومية

إنّ التفكير النقدي هام في المواقف المعادية، من أجل تحسين موقفك ومن أجل مهاجمة وجهات النظر المعارضة. والسعي وراء الحقيقة في موقف معاد يمكن أن يكون فعالاً: عندما يقدم محامون بارعون أقوى دليل متوفر وأفضل حجج يمكن أن يكشفوها، وعندما يتحرى الطرفان الادعاءات المعارضة بحثاً عن التزييف والمغالطة، عندئذ (إذا كان الملعب مستوياً والمباراة عادلة) يكون الموقف الذي يُترك صامداً قد تم اختباره والنظر فيه ووجد جديراً. إن هذا النموذج “المعادي” لإختبار الأفكار متجذر بعمق، ليس فقط في محاكمنا بل في لغتنا العادية كذلك: وليس محض صدفة أنّنا نتحدّث عن “حجج دامغة”. وينطبق النموذج نفسه على العلوم: يتقدّم العالم بفرضية أو نظرية، ويقدّم دليلاً على رأيه؛ ويقوم علماء آخرون بإختبار النظرية وتنبؤاتها، مستكشفين عيوباً في المنهجية وباحثين عن دليل يدحضها. والنظريات التي تقدّم توقّعات مفيدة وتصمد في مواجهة التحدِّيات هي التي يتم قبولها على أنّها صحيحة.

 

ولكن بقدر ما هو قيّم النظام العدائي للعدالة، والسعي وراء الحقيقة، فهناك كذلك مناهج تعاونية للسعي من أجل الحقيقة والمواقف التعاونية للبحث عن العدالة؛ والتفكير الناقد هام في هذه المواقف كذلك. على سبيل المثال، في قضايا تتعلّق بالزواج والطلاق والوصاية على الأطفال (وأحياناً في قضايا مدنية)، قد يتفق الطرفان على محاولة تسوية خلافاتهما من خلال عملية حل نزاع تتضمّن تحكيماً واستشارة. إنّ مثل هذا النهج قد لا ينجح في كل نزاع، ولكنّه يقدم في بعض السياقات مزايا هامّة على طرائق تقليدية معادية أكثر. ويكون السؤال في نزاع معادٍ هو “أي طرف يكسب”، وهناك أوقات قد يتم فيها خدمة كل شخص بشكل أفضل بالبحث المتضافر عن حلول. إذا “كسب” (بن) معركة الوصاية على طفله مع (بابرا)، فقد يكتشف أنّ الجميع سيعاني بمن فيهم هو نفسه، وعلى الأخص أولادهما. إن نهجاً يبدأ من البحث عن أرض مشتركة وأهداف مشتركة (على سبيل المثال، يجب على الوالدين أن يتشاركا في هدف إيجاد الحل الأفضل لأولادهما) قد يكون أفضل من نزاع خصومة يؤكِّد على الخلافات ويفاقمها.
وفي حين أن هذا النهج مقتصر عادة على القضايا المدنية والمحلية، فقد حاول بعض السكان الأصليين في كندا أن يطبقوا نهجهم اللانزاعي المبني على أساس مجتمعي على حل القضايا الجنائية. وإنطلاقاً من التزام مشترك بمعالجة المجتمع بعد جريمة تم اقترافها فإنّ هذه الجماعات ترى النظام العدائي كعائق أمام تلك المعالجة. وبدلاً من التركيز على من المتّهم وأي جانب يكسب، فإنّ التأكيد يكون على ما الخطأ الذي حدث في المجتمع وكيف يمكن إصلاحه، وعلى إعادة دمج المذنب في المجتمع وعلى معالجة الضحايا والمتهم والمجتمع. إنّها عملية مختلفة جداً عن النزاع المنطوي على معاداة لمعظم الإجراءات الجنائية الغربية، ولكنّها تتمتع ببعض المزايا البارزة. يركّز النهج الكندي للسكان الأصليين في تناول العدالة على مصدر أعمق للمشكلة، ويبحث عن حل للمشكلة يصلح الضرر الذي يلحق بالمجتمع ويمنع المزيد من الصعوبات. وفي المقابل فإن معظم أنظمة المحاكم الغربية تفرض عقوبات ولكن لا يوجد شيء من أجل حل أصل المشكلة. إنّ محاولة تقليص الجريمة بفرض عقوبات جنائية صارمة أثبت فشلاً ذريعاً: من بين الدول الصناعية الغربية، تضم الولايات المتحدة أعلى عدد نزلاء في السجون وهي الدولة الوحيدة التي تفرض عقوبة الإعدام، كما تتقدّم بدرجة كبيرة بمقدار الجريمة العنيفة.
إنّ التفكير الناقد هام في المواقف النزاعية، ولكنّه أكثر من مجرّد سيف لإخضاع خصومك وإثبات صحة حجتك. والتفكير الناقد هام جداً كذلك في تحديد ما هي المشاكل بالضبط، وإكتشاف الإحتمالات المتنوعة لحلها، ودراسة تأثيرات البدائل والوصول إلى الحل الأمثل لجميع الأطراف المعنية. وسواء تم السعي وراء الحقيقة بمعركة أو بالتعاون، فإنّ التفكير الناقد يلعب دوراً حيويّاً.
المصدر: كتاب التفكير الناقد (ادرس الحكم)
* بروس إن، والر
* ترجمة: لميس فؤاد اليحيى
Exit mobile version