الخازن.. ميزان الحكمة

هو عبد الرحمن أبو جعفر الخازني، عاش في مَرو رقيقاً عند الخازن المروزي، وأخذ العلم في مجالس شيوخها، وشجعه مولاه على الدرس والبحث ومتابعة علومه، وتوفي سنة 1155 م.

أحاطت بحياة الخازن غيوم كثيفة من الإبهام، وأصاب نتاجه إهمال، ولحق به إجحاف لم يلحق بغيره من أعلام الفكر عند العرب، كما أن ترجمة اسمه إلى اللغات الأجنبية أدَّى إلى الخلط بينه وبين علماء آخرين، فنسبت آثاره إلى غيره كما نسبت آثار غيره إليه.

منجزاته وإبداعاته

الخازن فيزيائي لمع اسمه في سماء البحث والابتكار، وفلكي ومهندس برع في علم الحركة (الايدروستاتيكا – توازن السوائل) كما أبدع في علم الميكانيك وأتى بما لم يأتِ به غيره من الذين سبقوه من علماء اليونان والعرب.

ومن أهم إسهاماته: ابتدع الخازن جهازاً لمعرفة الثقل النوعي لبعض السوائل، ووضع نسباً لها وكان الخطأ فيها لا يتجاوز 6% من الغرام في كل ألفين ومئتي جرام.

وابتدع الخازن جهازاً لمعرفة الثقل النوعي لبعض المعادن والأحجار الكريمة، ووضع نسباً لها، وبمقارنتها مع النسب الحديثة التي توصل إليها علماء الفيزياء بمعداتهم الحديثة نراها تتقارب وتكاد تتساوى رغم الفرق الشاسع بين ميزان الخازن البسيط والموازين المتطورة حالياً.

كما ابتدع ميزاناً لوزن الأجسام في الهواء والماء ولهذا الميزان خمس كفَّات تتحرك إحداها على ذراع مدرج، ويشرح بشكل مفصل كيفية العمل بهذا الميزان، مع العلم بأنه في كتب الفيزياء والعلوم الطبيعية يُذكر بأن “توريشللي” أول من وجَّه النظر إلى بحث وزن الهواء وكثافته والضغط الذي يحدثه، والواقع يثبت عكس هذا تماماً حيث ثبت من خلال كتاب “ميزان الحكمة” بأن الخازن هو أول من تناول موضوع الهواء ووزنه قبل توريشللي بخمسة قرون، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أشار أن للهواء قوة رافعة كالسوائل وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتبع كثافة الهواء.

بحث الخازن في الكثافة العظمى للماء عندما يكون قريباً من مركز الأرض قبل “روجر بيكون” بقرنين من الزمن، وبين الخازن بأن قاعدة أرخميدس لا تسري على السوائل فحسب بل تسري على الغازات أيضاً، وأبدع بالبحث في مقدار ما يُغمر من الأجسام الطافية في السوائل.

ولا شك أن هذه البحوث هي التي مهَّدت الطريق أمام العلماء فيما بعد لابتكار بعض الاختراعات الهامة كالبارومتر (ميزان الضغط) ومفرغات الهواء والمضخات المستعملة لرفع المياه، ويعترف “بلتن” في أكاديمية العلوم الأميركية بأن لكتاب ميزان الحكمة شأن كبير في تاريخ علوم الطبيعة وتقدم الفكر، كما ويذكر بأن الخازن قد استعمل “الإيرومتر” لقياس الكثافات وتقدير حرارة السوائل، وبذلك يكون قد مهَّد السبيل أمام “غاليلو” لصنع الترمومتر.

كما درس الخازن مقاومة السوائل للحركة، ويذكر في كتابه بأن حركة الجسم الثقيل في السوائل تكون أسرع كلما كان السائل أكثر سيولة، ويعتبر الخازن من أوائل أعلام الحضارة العربية الإسلامية الذين بحثوا في الجاذبية وأضاف إليها إضافات لم يعرفها الذين سبقوه، وقال: إن التثاقل واتجاه قواه إلى مركز الأرض دائماً، وأظهر العلاقة بين سرعة الجسم والمسافة التي يقطعها والزمن الذي يستغرقه قبل جاليلو بخمسة قرون.

ويقول: إن هناك قوة جاذبة على جميع جزئيات الجسم وإن هذه القوة هي التي تبين صفة الأجسام، وقد ثبت حديثاً بأن لهذه النظرية أهمية قصوى في عمليات التحليل الكيميائي.

ويذكر للخازن أنه ابتدع معادلة سهلة تؤدي إلى معرفة الوزن المطلق لجسم مكون من مادتين بسيطتين، وأجاد الخازن في بحوث مراكز الأثقال وفي شرح بعض الآلات البسيطة وكيفية الانتفاع بها وقد أحاط بدقائق المبادئ التي يقوم عليها اتزان الميزان والقبان واستقرار الاتزان إحاطة مكنته من اختراع نوع غريب من الموازين لوزن الأجسام في الهواء والماء.

عمل الخازن زيجا فلكيا سماه “الزيج المعتبر السنجاري” وفيه حسب مواقع النجوم حتى العام 1116م وجمع أرصاداً أخرى هي في غاية الدقة بقيت مرجعاً للفلكيين مدة طويلة، وفي هذا الزيج أيضاً جداول السطوح المائلة والصاعدة ومعادلات لإيجاد الزمن من خطوط العرض لمدينة مرو، وكان هذا الكتاب مصدراً من المصادر التي اعتمد عليها “نللينو” في مؤلفاته عن الفلك العربي، وتعد أبحاث الخازن في قياس الضغط ودرجة الحرارة الممهد الأول الذي ساعد على تقدم العلوم خطوات كبيرة في مجال دراسة طبيعة الفلاف الجوي.

مؤلفاته

يعتبر كتاب “ميزان الحكمة” من أنفس الكتب العلمية، وهو الوحيد الذي يحتوي على بحوث مبتكرة جليلة لها أعظم الأثر في تقدم الهيدروستاتيكا، وبهذا الكتاب تتجلَّى عبقرية الخازن وبدائع ثمرات التفكير العربي، ومنذ عثور القنصل الروسي كانيكوف في تبريز بإيران على هذا الكتاب في منتصف القرن الماضي والأبحاث تتوالى عنه في المجلات العلمية الأوروبية والأميركية.

وعن هذا الكتاب يقول سارطون: لقد دهش الكثيرون بهذا الكتاب، وإن بحوث ميزان الحكمة من أجلّ البحوث وأروع ما أنتجته القريحة العلمية في القرون الوسطى، ويعد الألماني فيدمان من أكثر العلماء اعتناء بهذا الكتاب النفيس، فقد ترجم فصولاً عديدة منه وشرحها وعلّق عليها، كما وهناك من المؤرخين من حرروا رسائل عن محتوياته، ودلَّلوا فيه على فضل الخازن في علم الطبيعة.

طبع هذا الكتاب في حيدر آباد 1940، كما طبعه ونشره السيد فؤاد جميعان 1947، ويقع الكتاب في مقدمة وثمانية أبواب، ويوجد منه أربع نسخ مخطوطة معروفة واحدة في استنبول وواحدة في روسيا واثنتان في الهند.

ومن كتبه المهمة أيضا : كتاب الآلات المخروطية للرصد، الآلات العجيبة الرصدية، كتاب في الفجر والشفق، كتاب التفهيم، كتاب جامع التواريخ.

Exit mobile version