نشرت الـمنظمة العالـمية للـملكية الفكرية في جنيف، تقريرها الإحصائي الـمركزي لعدد طلبات براءات الاختراع التي تقدمت بها الدول للتسجيل لديها خلال العام الـمنصرم 2008، وقد جاءت الدول العربية جميعها، في ذيل قائمة هذه الطلبات. ولا أحسب أن أصحاب القرار في هذه الدول العتيدة، قد التفتوا لهذه “الذيلية”، أو اكترثوا بها. ولعلهم لـم يقرأوا التقرير الـمعني أصلا، أو أي ملخص عنه، ولو مجرد قراءة عابرة مع فناجين قهوة صباحاتهم التعيسة. ويجوز مع ذلك، أنهم قرأوا، ثم طلبوا من أجهزتهم الاستخبارية أن تكتم أنفاس النشر العام بشأن ذيلية حالهم، حرصا منهم على حماية الأمن الوطني والأمن القومي، من هذه “الأكاذيب والتقارير الـمغرضة” القادمة من وراء البحار!
شكراً للشبكة العنكبوتية التي لا تخضع لهذا الأمن العجيب، على أية حال. فمن خلالها،أمكن الوصول إلى التقرير بكل سهولة ويسر، ليقرأ من رغب بالقراءة، كيف شاء، وليكتشف، كأنما هو ذاته أحد الـمخترعين في السياق، أن الأمن الصحيح، من الوطنية إلى القومية إلى العالـمية، كامن بأدق تفاصيله، في هذه القراءة الـمتمعنة والـمحدقة بكل حرف ورقم.
يذكر التقرير أن عدد براءات الاختراع العربية الـمقدمة للـمنظمة في العام 2008، عبر معاهدة التعاون بشأن البراءات، بلغ 174(مائة وأربعاً وسبعين) موزعة على إحدى عشرة دولة عربية فقط، أي أن نصف الدول العربية غائب تماما عن القائمة، فلا طلبات منه، ولا مخترعون فيه. أما النصف الحاضر، فإنه غير متجانس في الأرقام التي تظهر إلى جانب أسمائه. ففي حين تتربع السعودية على الرأس، بإحدى وستين براءة اختراع، تليها مصر بسبع وأربعين، ثم الامارات باثنتين وعشرين، والـمغرب باثنتي عشرة، والجزائر بإحدى عشرة، والأردن بست، وسورية بخمس، وثلاث لكل من الكويت والسودان وتونس، تكتفي ليبيا ببراءة واحدة.
ولا بأس بهذا الاختلاف البسيط نسبيا والـمتحرك في الأساس داخل الـمنزلة الواحدة، بين هذه الدول التي لـم تتجاوز إحداها على الأقل، نحو منزلة أعلى. ولكن البأس الشديد كله، في مقارنة مجموع البراءات العربية، بما يذكر التقرير عن عدد البراءات التي تقدمت بها إسرائيل، وهي 1882 (ألف وثمانمائة واثنتان وثمانون)، ما يعني أنها تفوق الـمجموع العربي كله بأكثر من عشرة أضعاف.
تقف إسرائيل بما امتلكت من البراءات إلى جانب دول كبرى يذكرها التقرير، واحدة إثر واحدة، من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، بما فيها تلك التي لا تزال تندرج تحت مسمى “النامية” وفق الرؤية العالـمية الـمتقدمة لـمعنى النمو، لكننا في قياس ما نحن فيه من قحط وجفاف، نراها كاملة الأوصاف، فوق كل نماء واقتدار. وليس من داع لذكرها في هذا الـمقال، طالـما أننا نحفظ أسماءها عن ظهر قلب، ونعرف منها وعنها على وجه التحديد، عبر ما نستخدمه في حياتنا اليومية، من مختلف منتجات اختراعاتها الـمتواصلة، من الدمية إلى السيارة، دون حاجة منا لأي تقرير.
لماذا يتخلف العرب إلى هذا الحد الـمزري والـمعيب، في حقول العلـم، حتى ضمن الـمعطيات والـمحددات الـمعروفة للدول الـمتخلفة؟
ولعل السؤال الأصح هو: كيف لا يتخلف العرب في الأساس، تخلفاً غير عادي وغير مسبوق في شبيه أو مماثل، ونسبة الأمية، أمية الحرف، ناهيك عن أمية العلـم الـمقصود، تصل في بعض أقطارهم ومجتمعاتهم إلى أكثر من الثلثين؟ وكيف لا يتخلف العرب وعلـماؤهم وخبراؤهم ومخترعوهم الذين استطاعوا كسر الأطواق عن أعناقهم وعقولهم، مقهورون ومنبوذون ومطاردون في غالب الأحيان؟ وكيف لا تلصق الذيلية الـمقيتة بالدول العربية وهي لا تستثمر في البحوث العلـمية إلا النزر اليسير والفتات الهزيل من الأموال الـمكدسة في خزائنها، وخزائن بنوك الدول الأخرى، ولا ترى في هذا الاستثمار أصلاً وفصلاً، سوى خسارة مؤكدة، وعبث لا طائل تحته ؟
وربما رأت فيه، وهو اليسير والهزيل، تهديداً لوجودها الـمتكلس والقائم بالضرورة، على العتمة والجهل والبطش؟ وكيف لا تتراكم الهزائم العسكرية والسياسية والاجتماعية على هياكلها الـمهترئة، وهي تخاف من خيرة عقولها، ثم تدفع بها دفعا بالنار والحديد والنبذ والتجويع، للهرب والفرار إلى أحضان مجتمعات أجنبية تحترم العقول، وتوفر لها إمكانات البحث والاختراع بحرية وتقدير وتكريم، دون التوقف عند أي شأن في الجنسية أو الدين أو الهوية، سوى شأن العقول الـمبدعة ذاتها؟
ويعرض العرب على إسرائيل، بعد هذا كله، مبادرة للسلام معها، كأنهم يعرضون عليها براءة اختراع السلام من قلب حواكيرهم الـمدمرة، دون أن يدركوا أن مثل هذه البراءة بالذات، لا قيمة لها ولا معنى، طالـما كانوا خارج حقول العلـم، أو في الذيل الـمهين لأطرافها الـمهمشة؟!
بقلم: علي الخليلي