عاش في محراب الفن حياة مليئة بالكفاح والعمل المتواصل والصبر، ورحل تاركا ورائه إرثا يمثل كنزا من كنوز الإبداع، ليبقى شاهدا على موهبته وفنه، فهو واحد من فرسان الفن التطبيقي وتشكيل المعادن، بكافة أنواعها امتلأ مرسمه بالعديد من الأعمال واللوحات الفنية الراقية البديعة التي زادت عن مائة عمل.
ولد الفنان علي متولي معلي عمران بحي الموسكي بالقاهرة وعايش بإبداعه الفني واقعا يلمسه ويدرك دلالاته إدراكا عميقا يتلاقي فيه الوعي مع الوجدان فهو يرى المعادن مادة ذات شخصية متميزة، فهي عنده مجال من التخصصات الثرية المعبرة.
ولد الفنان علي متولي معلى عمران بحي الموسكي، قسم الجمالية بالقاهرة في (12/10/1922)، حيث نشأ في عبق بيئة شعبية دينية وفي إحدى الأسر العريقة من محافظة الوادي الجديد.
وبحي خان الخليلي قلعة الفن الشعبي والتقليدي كان الطفل “علي” يتجول جيئة وذهابا، صباحا ومساء، ليلا ونهارا، فترسخ عنده منذ الصغر حب العمل والجدية في مناخ يعمل كالخلية.
كانت عيناه ترى حركة الصناع والتجار في الأزقة، والحرفيين في حوانيتهم وورشهم، على اختلاف تخصصاتهم يبدعون في فروع الفن الشعبي المختلفة، حيث كانت هذه الرقعة المحددة نسبيا تمثل مدرسة شاملة أو كلية صغيرة لكل الحرف، كان ذلك قبل أن تطأ قدماه المدرسة الإلزامية.
مع بداية دخوله التعليم الأساسي –الإلزامي– في مدرسة محمد علي الخيرية كانت يده مشهودا لها بين زملائه في حصص الرسم فحظي بتشجيع وإشادة أستاذه، ووالدته أيضا، أما والده فلم يتدخل في توجيهه إلى اتجاه محدد، ولكنه تركه يختار، فاختار أن يستكمل تعليمه في مدرسة الصناعات الزخرفية.
وبمجرد أن أنهى دراسته بمدرسة الصناعات الزخرفية دخل مدرسة الفنون التطبيقية العليا بمجموع مرتفع، وتخصص في قسم الحديد الزخرفي والمعادن، وفي أثناء فترة وجوده في مدرسة الفنون التطبيقية قويت علاقته بميدان العمل وتميزت دراسته بالاعتماد على جمع المعلومات وإضافة ما يمكن إضافته إلى التراث وتحديد القيم الوظيفية والاستخدامية للمنتجات، والانفتاح على خطوط الإنتاج في المجتمع، بعدها كان حصوله على دبلوم الفنون التطبيقية قسم الحديد والمعادن سنة 1947 بتقدير امتياز ونال مكافأة وتقدير الملك فاروق ملك مصر آنذاك.
لم يتوقف علي متولي عند هذا القدر من التعليم فالتحق بكلية التربية الفنية حيث حصل على مؤهل تربوي سنة 1955، وبهذا جمع بين المادة العلمية وطريقة التدريس مما أفاده في كيفية إلقاء الدروس والتعامل مع الناس، فعمل بالتدريس في المدارس الثانوية العامة والصناعية، كما اشترك في تخطيط وتطوير العديد من المناهج الدراسية بالتعليم العام في مرحلتي الإعدادي والثانوي، وكذلك الكليات الفنية خلال عمله بالتربية والتعليم.
وشارك في تدريب موجهي التربية على طرق تدريس فن تشكيل المعادن وفي تخطيط مناهج الدراسات العملية بالتعليم العام والمعاهد الأزهرية.
وقام بتدريس مادة المعادن بمعهد التربية للمعلمين بالكويت وأسهم في تطوير مناهج التربية الفنية بها، كما قام بتدريس مادة المعادن بكلية التربية الفنية بالزمالك، وأخيرا بكلية التربية النوعية بالعباسية التي أنهى بها مشوار حياته العلمي.
وإلى جانب نشاطه الأكاديمي كان هناك نشاطه الفني المتميز، حيث قام بتصميم وتنفيذ بعض الأعمال في قصر عابدين، وغيرها، وكذلك قام بتصميم وتنفيذ أعمال النحاس في كل من مسجد أبناء أنطونيوس باسيلى بالورديان بالإسكندرية، ومسجد الشيخ أبي خليل بالزقازيق، والمسجد الإسلامي بواشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، ومسجد قبة الصخرة الجديدة، ومسجد سيدي جابر بالإسكندرية وغيرها.
كما قام في العام 1965 بإعداد معرض التخطيط القومي لخطة التنمية، وشارك في تنفيذ بعض الأعمال الفنية في فندق النيل هيلتون، وتنفيذ شعار محافظة سوهاج، نحاس مطروق ومينا في عام 1988، وشعار مدينة أخميم في العام 1992.
وشارك في الكثير من المعارض منها: معرض العطاء بمجمع الفنون 1992، ومعرض إفريقيا في الفن المصري على هامش مؤتمر القمة الإفريقية 1993، ومعرض جماعة الفن والمجتمع في المعادى 1993، ومعرض “أنغام معدنية” لكلية الفنون التطبيقية 1994.
كان للفنان الدكتور علي متولي مدرسة متميزة خاصة به، وقد جعله عشقه للنحاس ينوع في الأساليب التقنية التشكيلية، ولعل أبرزها ارتباط هذه التشكيلات بالتراث الحضاري المصري والإسلامي على وجه التحديد، وفق عملية من التطوير تمر عنده بمراحل كثيرة، تبدأ منذ تسجيله الفكرة على الورق وبخامة القلم الرصاص أو الفحم أو كليهما ثم تطويرها وتعديلها وتحسينها وتجديدها، إلى أن يستقر على شكل محدد ثم يتخير المعدن النحاس، سواء كان من النحاس الأحمر أم الأصفر، ثم يختار سمك المعدن؛ لأن ذلك يفيد في عملية التشكيل وتحمل المعدن للطرقات والضربات المختلفة بالأدوات التي كان يستخدمها، ثم يقوم بـ”تخمير المعدن”، أي إدخاله في درجة حرارة عالية حتى يكون سلسا في عملية الطرق، ثم يصور هذا العمل ويلصقه على شريحة المعدن، ويرسم بقلم معدني فيحفر هذا الرسم في خطوط واضحة لا تزول ويتبعها بعد ذلك بالمعالجات الفنية، ثم يتعامل مع هذا الرسم بالعديد من الأدوات من مطارق وأجن لإظهار المستويات المختلفة.
وفي هذه المرحلة من التشكيل تدخل حاسة السمع بصفة أساسية، حيث تميز الأذن أثر كل طرقة وطرقة والنغمة التي تحدثها، فهذه طرقة قوية عميقة شديدة الصوت، وهذه ضعيفة سطحية العمق رفيعة، وكذلك التزامن ما بين الطرقات التي تمثل الإيقاع فكل طرقة وطرقة بينهما زمن يقال عليه الإيقاع، أي تنظيم فواصل يستطيع أن يحس ويعرف ويتحقق أين يضرب بالمطرقة بيده، وأسفل هذا العمل يكون قد وضع خامة طيعة من الرصاص أو من الإسفلت، بحيث تمتص الطرقات وحدة الطرق وتساعد على التشكيل.
تميزت العناصر التراثية لفن علي متولي باختياره لوحدات زخرفية وطبيعية على صلة وثيقة بالحضارة المصرية والإسلامية والشعبية يصوغها صياغة جديدة في وظيفة جديدة، “الأسماك” مثلا واحدة من العناصر التي استخدمها، وهي عنصر حضاري وشعبيً عرفه المصريون القدماء ثم القبط ثم العرب، وهي رمز الخير عند المصريين القدماء، ونراه يستخدم هذا العنصر بشكل متميز فيضعه في شكل هندسي مثمن، وفي أوضاع مختلفة معبرة عن الحركة الدائبة والدائمة، فأفاد من جسم السمكة ومرونتها وطواعيتها فبدت كأنها تجري وراء بعضها، يحكمها شكل خارجي على صلة وثيقة بالتوريق العربي أو فن “التوشيج”، ثم أفاد من الفقاقيع الهوائية التي تخرج من خياشيم السمك في معالجات زخرفية توضح اهتمام الفنان بمعالجة يرتبط فيها الموضوع بالمضمون والشكل في آن.
كما برع في تجسيم الخطوط العربية كخط الثلث أو النسخ مثلا، واستخلص تشكيلا جماليا خاصا به من خلال ما ترسخ في ذهنه مما رأت عيناه في العمارة العربية الإسلامية، تارة يبدو فيها تأثير الخط العربي، وتارة أخرى نرى خط الثلث، والخطوط الأخرى.
ولقد حاول علي متولي إيجاد العلاقة ما بين الفراغات لتحدث تشكيلا جماليا ينشأ ما بين الحروف وبعضها وبين الكلمات وبعضها وفقا لشكل المساحة، فنرى العبارة الواحدة مرة على شكل دائرة وهي نفسها مرات أخرى على شكل مستطيل أو مربع أو قطع ناقص وغيره من الأشكال، وهذا ما نراه مثلا في لفظ الجلالة، حيث قام بعمل عدد كبير من التشكيلات الجمالية بخامة النحاس ليجيب عن العلاقة بين الطلاقة والإبداع لديه من خلال خمسين فكرة وشكل مختلفة عن بعضها في الحجم والمعالجة والمساحة والمستويات والأساليب التقنية.
ونراه يستخدم عناصر خطية وكلمات مناسبة تماما لمضمون تشكيله الفني فهو يستخدم “وجعلنا من الماء كل شيء حي” مع العناصر البحرية كالأسماك، ثم استخدم “طيرا أبابيل” مع الطائر الضخم الذي يترجم قصة أصحاب الفيل، واستخدم “لبيك اللهم لبيك” مع موضوع الحج عرفة، كما استخدم “فمن شهد منكم الشهر فليصمه” مع الأهلة التي تظهر في السماء في شهر رمضان المعظم كعنصر تراثي مميز للبيئة العربية الإسلامية.
كما تظهر “الشجرة” كعنصر شهير وواضح في منظومة عناصره التراثية وقد استخدمها في لوحة أسماها “الأمومة”، فللأمومة جذور تشبه الشجرة، وساق هي الإنسان الحالي الحي الفاعل في الحياة؛ ولأنه يعيد حركة الحياة فهي تخرج من أذرعه، أي من فروعه الكثيرة من الفروع الأصغر، فاليد في الإنسان تتمثل فيها القدرة التي تترجم الخلق والإبداع الناتج عن تصور وخيال الفنان، فتبدو الشجرة وكأنها معبرة عن الأسرة بوصفها منظومة من منظومات الحياة.
أما “الطائر” فهو أحد أهم عناصره التي استخدمها بكثرة فجعلها مرة قوية غير محتملة الرؤية كما في المجسم النحتي “طيرا أبابيل”، ومرة رشيقة وادعة هادئة، وتارة أخرى متبخترة مستعرضة جماليات تشكيلها، حسب موقعها من الموضوع أو المضمون.
ومع كثرة العناصر والوحدات التي استخدمها متولي نجد له موقفا مستبعدا للتشخيص فلم نر في لوحاته أن استخدم الشخص محورا لعملياته الإبداعية؛ نظرا لحساسية الفن الإسلامي من تصوير الأشخاص، إلا أنه في نهاية حياته قد هزته مجريات الأحداث التي تعرض لها مسلمو البوسنة والهرسك، ومتأثرا بهذه الأحداث قام بعمل لوحة فريدة ووحيدة فيها عنصر الوجه الآدمي حيث تمثل هذه اللوحة سيدة في بؤرة النظر حيث تستقر عين المشاهد لرؤيته وكأنه يستنجد به ويستصرخه، وعلى جبهة وجبين هذه السيدة طلقات الرصاص التي تخترق جمجمتها والدموع تسيل من عينيها، وأسفل ذقتها مجموعة من الأطفال على هيئة قوس، ويعلو الرأس لفظ الجلالة بمستويات مختلفة وكأن هؤلاء الأطفال يستصرخون بالله مرددين هذه المستويات التعبيرية التي لجأ إليها الفنان وكتب الآية الكريمة المناسبة لهذا الحدث الجلل “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
وهكذا كان يرى “علي متولي” المعدن.. فهو مهنة نبي الله داود عليه السلام، حيث كانت معجزته في تليين الحديد، فالمعدن لغة خاصة، وموسيقى حالمة يرى نتاجها الفوري والحالي على المعدن في هيئة “أنغام معدنية”.