العقل زينة الإنسان.. استراتيجية اغتيال العقول والكفاءات

 

العقل زينة الإنسان وقد منحه الله هذه النعمة ليميزه بها عن سائر المخلوقات لذلك فإن الإنسان مكلف بأمور كثيرة وقد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تحملها وحملها الإنسان لأنه صاحب عقل وتمييز وبسبب هذه الميزة أيضا أصبح الإنسان يختار طريقه في الحياة إما طريق الشكر والعرفان أو طريق الكفر والعصيان.

وعلى العموم فإن الإنسان في جميع أنحاء العالم يولد على الفطرة وينشأ طبقاً للمنهج العقدي والتربوي الذي يربى عليه ويتعلمه وقد أشار الحديث النبوي الشريف إلى ذلك. ومن ناحية أخرى نجد أن القدرة العقلية تتفاوت من إنسان إلى آخر من حيث سعة المدارك والذكاء والقدرة الاستيعابية والخيالية والتناغم بين الملكات المختلفة والمهارات المتعددة فهو قد يكون بسيطاً ذو قدرات وذكاء محدود وقد يكون متوسط القدرات والذكاء وقد يكون متألقا ذو ذكاء حاد وقدرات متعددة والأخير هو الذي يبدع وينفع في الغالب بقية الأمة بما يتوصل إليه من إبداع وفكر وهؤلاء وهبهم الله هذه الميزة فهم موهوبون لهم على الأمة حق التشجيع والحماية والتبني.

والعقل العربي ظل صافياً ومتفتحاً ويتميز بالإدراك وسعة الخيال وقد جاء القرآن الكريم بلسان عربي دعا الله من خلاله بني الإنسان إلى التفكير في ملكوت السموات والأرض وإمعان النظر في جميع الظواهر الطبيعية التي أودعها الله في كونه ليتدبر الإنسان قدرة الخالق العظيم سبحانه وتعالى ومن هذا المنطلق استطاع العرب رعاة الشاة والبعير وخلال أقل من أربعة عقود من الزمن أن يصنعوا أكبر دولة في ذلك الوقت تحكم بالعدل وهو شرع الله وتدعو إلى المساوات ونبذ التفرقة بجميع أنواعها وأن تسن الأنظمة وتبنى الأطر الحضارية التي ما لبثت أن قادت العالم من النواحي الروحية والدنيوية وقد تمثلت الأخيرة بتقدم العلوم في الفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء والطب وغيرها من العلوم حيث جاءت الوفود الطلابية من جميع أنحاء العالم لتنهل من مشارب العلم والمعرفة سواء في حواضر الدولة الإسلامية مثل دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة أو في التخوم في كل من الأندلس ومرسيليا والجزر الأخرى في البحر الأبيض المتوسط. وكل هذا تم بسبب أن العقل العربي كان حراً طليقاً لم يقف أمام عطائه المتوهج أحد ولم يغتال انطلاقته بشر بل كان الخلفاء المتعاقبون يتنافسون في دعم العلم والعلماء كل في مجاله حتى أثمر ذلك الإنتاج الزاهر المعتمد على القياس والتجربة. والذي لازلنا نفخر به دون أن نبدأ المسيرة الحقيقية لبعثه من جديد.

وبعد تفكك الدولة الإسلامية بسبب الخلافات بين القيادات المختلفة والتنافس غير الشريف بينها و بسبب دخول عناصر ذات مصالح وتوجهات متباينة بدأ المد الفكري في الانحطاط على جميع المستويات ففي الدين ظهرت البدع وفن الشعر نزل مستواه وفي العلوم التطبيقية كاد الاهتمام بها أن يختفي ويندثر ذلك أن عدم الاستقرار والزوابع السياسية والاقتصادية والأمنية تعمل ضد الفكر السليم والعقل المنير بل تغتاله. ثم جاء العصر الحديث والعالم العربي مهمش من نواح عديدة فهو تابع وليس متبوع ويعتبر من التخوم بالنسبة للدولة التي تحكمه وفي بداية القرن العشرين أراد العرب النهوض بناء على مبادرة فردية فأصبحوا لقمة سائغة للاستعمار الحديث الذي حاول اغتيال كل العقول العربية بأساليب مختلفة لكن هدفها واحد وهو الإبقاء على هذه الأمة في الظل لأطول مدة ممكنة حتى يتمكنوا من امتصاص ثرواتها من ناحية ومن إطالة نوم المارد العربي الذي لو استيقظ من نومه فإنه يستطيع أن ينطلق من عقاله وأن يصنع المستحيل كما فعلها أول مرة عندما تأسست دولة الإسلام بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدين ثم خلفاء وحكام تلك الدولة على امتداد عدة قرون من الزمن.

لكن شعوب العالم العربي تحركت ضد الاستعمار ولم تسكت لكن الاستعمار ترك له بصمة سوداء وهي أنه قسم دولة العرب الواحدة إلى مجموعة من الدول تتنازع على الحدود وتدب بينها الخلافات وقد فعل ذلك لكي يضمن استمرار تخلف تلك المنطقة من خلال إذكاء روح الفتن والتنافس والدس الرخيص بين قيادات تلك الدول وذلك كله لكي يضمن استمرار اغتيال العقل العربي وعدم تمكنه من التوازن الذي يعرف أنه يؤدي إلى انطلاقته ولم يكتف الاستعمار بتحويل العالم العربي إلى دول متعددة ذات خلافات على الحدود والموارد المائية والشطئان وغيرها بل تعمد زرع وتد في ظهر العالم العربي يشبه السرطان وهو دولة إسرائيل لكي يمشي العالم العربي وهو أحدب لا يستطيع الاستقامة والوقوف معتدلاً بسبب ذلك المرض المزروع في ظهره. ومع ذلك كله فإنك تجد أن موقف الدول العربية المختلفة من ذلك الجسم الغريب المزروع في جسم الأمة العربية هو أغرب من الخيال فعلى الرغم من معرفة كل شعوب العالم العربي للعلة وللدواء إلا أن تلك الدول لم تستطع أن تعي حتى الآن أهميته وضرورته لكي يتعافى الجسد العربي منه فالمرض يستشري ويزداد قوة بينما العالم العربي بدوله المختلفة يزداد ضعفاً ووهناً خصوصاً في مجال توحيد الكلمة والسبب بالطبع هو أن الغرب الذي كلما ذكر العرب تذكر دولتهم الإسلامية القديمة فخافوا منهم مما يدفعهم إلى دعم إسرائيل نكاية بالعرب وقد استخدموا علم النفس وعلم الاجتماع ودرسوا العقلية العربية من خلال استقراء التاريخ فأصبحوا يخوفون العرب من بعضهم البعض مذكرين بحوداث وقعت فإن لم يجدوها صنعوا حوادث لكي تصبح من الشواهد التي يعتبر بها وخير مثال على ذلك حرب الخليج الأولى وحرب الخليج الثانية وحرب الخليج الثالثة التي تمت خلال العقدين الماضيين. لذلك فالكل يتوجس خيفة من الآخر، وخير شاهد على ذلك ما يحدث في العراق.

وهكذا تم اغتيال العقل العربي بصورة جماعية أما اليوم فإن هناك اغتيال للعقل العربي بصورة فردية في كل مكان في العالم العربي وذلك يتم من خلال تفشي المحسوبية حيث يوكل الأمر إلى غير أهله فتجد أن غير الكفء عندما يتولى مسؤولية قيادية يبدأ العمل على محاربة الأكفاء بكل وسيلة ويجتهد في إبعادهم حتى لا ينافسوه وبذلك يضمن لنفسه البقاء حسب اعتقاده أما المصلحة العامة فهي آخر ما يفكر به فكم من الهدر قد حصل بسبب هذا النوع من الإدارة المتخلفة.

أما النوع الثالث من اغتيال العقل العربي فإنه يتمثل في الدور الذي يلعبه العدو الصهيوني من خلال أجهزه مخابراته المتعددة الأغراض والتي من أولوياتها اغتيال العقول العربية المتميزة أينما وجدت خصوصاً تلك البارزة في مجال العلوم التطبيقية مثل علوم الذرة وغيرها وخير مثال على ذلك الرسائل الملغومة التي أرسلتها المخابرات الإسرائيلية إلى بعض العلماء المتميزين في مصر في الستينيات من القرن المنصرم ناهيك عن اغتيال بعض العلماء العرب في كل من أوروبا وأمريكا وغيرها من المواقع مثل اغتيال الدكتور سمير نجيب عام 1967 والذي تخصص في أبحاث الذرة ثم اختطاف واغتيال عالم الذرة الدكتور نبيل القليني عام 1975ناهيك عن اغتيال عالم الذرة الشهير يحيى المشد عام 1980م في باريس والذي كان يعمل في مؤسسة الطاقة الذرية في انشاص بمصر قبل التحاقه ببرنامج التسلح النووي العراقي. وقد اغتيل د. يحيى المشد أِثناء زيارته لفرنسا كرئيس للوفد العراقي المفاوض باعتباره مدير مشروع التسلح النووي العراقي الفرنسي في ذلك الوقت وقصة اغتياله ملأت وسائل الإعلام المختلفة في ذلك العام ثم تلى ذلك اغتيال عالم الفضاء سعيد سيد بدير في الإسكندرية في عام 1989 بعد ستة أشهر من عودته إلى مصر واليوم تقوم المخابرات الإسرائيلية بتصفية علماء العراق بصورة تكاد تكون يومية ناهيك عن شن حملة ضد المتميزين العرب في أي مجال ينجحون فيه سواء كان ذلك في الغربة والسياسية أو غيرها وأكاد اجزم بأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري يدخل ضمن هذه المنظومة بصرف النظر عن من قام باغتياله او حرض عليه.والأسماء لا تنتهي عند هذا الحد من الرجال الأفذاذ الذين يجب على الأمة أن توجد بديلاً لهم وبأعداد تتناسب مع تعداد سكانها. فعلم الذرة مهم جداً في كل من السلم والحرب فهل نأخذ به ونوليه العناية التي تتناسب مع أهميته وفي المقابل لم أسمع مرة واحدة أن أحد المخابرات العربية تمكنت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من التصدي والرد بالمثل أو العمل على صد الهجمة الصهيونية التي وضعت في حسبانها كل ما هو عربي مهما صغر فهم لا يحتقرون الصغير من الشرر بل يبدأون به لكي لا يتطور إلى ما يمكن أن يشكل

لهم إزعاجاً فما بالك إذا كان يشكل لهم تهديداً ومن الأمثلة على مثل هذا النوع من الحذر هجوم إسرائيل الجوي الذي استهدف تدمير المفاعل النووي العراقي في عام 1980م فهم يعملون على تدمير أي منشأة متميزة في أي مكان في العالم العربي أو الإسلامي لذلك نجدهم يخططون الآن لضرب القدرة النووية الباكستانية بأي وسيلة كانت حتى لو أدى الأمر إلى إشعال حرب نووية مع جارتها الهند. ويبيتون النية للمنشآت النووية الإيرانية وغيرها من المنشآت في العالم الإسلامي وبعد هل يعي العرب هذا الخطر المتمثل في الاغتيال المستمر لعقولهم وإلى أن كل إنجاز من إنجازاتهم موضوع على جدول أعمال المتابعة والدراسة من قبل مؤسسة بني صهيون وأن كل ذلك يجدول لكي يتم التعامل معه واغتياله في الوقت المناسب والذي قد حددوه واسترشدوا لتنفيذه بآراء وأفكار أعلى الخبرات وأكبر العقول ورسموا كل ذلك على نماذج وهمية تتحول عند التنفيذ إلى نماذج حية في مكان ما من جسم العالم العربي. وربما استخدموا الأيدي العربية لتنفيذه بصورة تشبه استخدامهم للإعلام العربي كمطية لإيصال أفكارهم وتحركاتهم دون وعي منه أو إدراك. فالذي يتابع تحليل أخبار الانتخابات الإسرائيلية في الصحف العربية يستغرب وجود تفاؤل عند فوز فلان وتشاؤم عند فوز علان مع أن كلاهما قاتل ومجرم حرب.

د. حمد عبدالله اللحيدان

 

Exit mobile version