باحثون مصريون يحاربون البلاستيك بـ«التعبئة الذكية»

تخيل أنك تتناول عبوةً من اللحوم المُصنعة من رف السوبر ماركت، فتحذرك: “أنا فاسدة”، أو تمنحك الضوء الأخضر لشرائها حال كانت صالحةً لم يفت موعد صلاحيتها بعد. هذا ليس خيالًا؛ فهذه التقنيات موجودة بالفعل في عدد من الدول، وتُعرف باسم “التعبئة الذكية” أو “التعبئة النشطة”.

وحديثًا، أصبح بالإمكان نقل هذه التقنيات إلينا عبر مشروع بحثي يقوده باحثون مصريون لتطوير مواد تعبئة وتغليف قابلة للتواصل مع المستهلك عبر إشارات معينة، كما تتميز بقابليتها أيضًا للأكل أو التحلُّل على عكس البلاستيك، فهل نراها في الأسواق المصرية قريبًا؟

البلاستيك في المواجهة

يتحدث باحثو المركز القومي للبحوث عن مشروعهم، خلال الفيديو التالي، ويشرحون كيف جعلوا الطعام يتحدث! (طالع الفيديو)

تقول زهرة صالح، أستاذ باحث بالمركز القومي للبحوث، لـ”للعلم”: إن هذا المشروع نتاج سلسلة من الأبحاث المشتركة لباحثي المركز، استهدفت تطوير مواد تعبئة وتغليف مصنوعة من مواد حيوية قابلة للأكل تُعرف باسم الأفلام الغذائية أو Edible films، وهي أحد تطبيقات التعبئة الذكية.

و”الأفلام الغذائية” عبارة عن طبقة رقيقة توضع على سطح الطعام أو داخل المكونات، ويمكن تناوُلها دون الحاجة إلى فك العبوة ورميها؛ لأنها مصنوعة من مواد غذائية صالحة للأكل، ويمكنها أن تطيل العمر الافتراضي للمنتج أو تحسِّن جودته من خلال التحكُّم في الرطوبة أو الحفاظ على اللون والمظهر أو فقدان الرائحة وغيرها من المزايا حسب مكوناتها.

وتشير “صالح” إلى بعض المواد التي استخدموها لتصنيع الأفلام الغذائية، وهي الشيرش المجفف (بروتين مستخلص من مخلَّفات صناعة الجبن)، والشيتوزان (نوع من الكربوهيدرات مستخلص من المحار والأسماك والصدفيات البحرية)، وكربوكسي ميثيل السليولوز (أحد مشتقات السليولوز).

وتضيف أن الأفلام الغذائية تتمتع بمزايا البلاستيك من حيث المرونة والخفة والقابلية للطي والفرد، وفي الوقت نفسه تتفادى عيوبه. واصفةً البلاستيك بأنه “عبء ثقيل على البيئة”؛ لأنه لا يتحلل بيولوجيًّا.

ولا يتحلل البلاستيك بواسطة الأحياء الدقيقة، ولكنه يحتاج -وفق نوعه- إلى ما بين عشرات إلى مئات السنوات حتى يتكسر إلى أجزاء دقيقة تُعرف بـ”الميكروبلاستيك”. وهناك بعض الأنواع تحتاج إلى آلاف السنين لتتحلل، مثل “الستايروفوم”. وتهدد هذه الأجزاء الدقيقة ملايين الأحياء البحرية، وتصل عبر السلسلة الغذائية في النهاية إلى الإنسان، وفق تقرير حالة البلاستيك، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2018.

وتحتوي عناصر الستايروفوم على مواد كيميائية سامة مثل الستايرين والبنزين. وكلاهما مسبِّب للسرطان. ويمكن أن تؤدي إلى آثار ضارة على الجهاز التنفسي والعصبي والتناسلي بانتقالها إلى الأطعمة والمشروبات عند تسخينها، وفق نتائج تقرير آخر لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، صدر أيضًا العام الماضي، ويدعو إلى خارطة طريق للاستدامة عبر تجنب استخدام المنتجات البلاستيكية أحادية الاستخدام.

كما ينتج عن حرق البلاستيك انبعاثات كيميائية مسرطنة مثل الديوكسين، وهو مادة سامة للبشر، تتراكم في جسم الإنسان عند استنشاقها من خلال التعرُّض لأبخرتها، ويمكن أن تنتقل من الأم إلى الجنين عبر المَشيمة. كما تتساقط مادة الديوكسين في المجاري المائية وعلى المحاصيل عندما تلتصق بذرات الغبار، وفق تقرير لمنظمة الصحة العالمية.

وحذر تقرير الأمم المتحدة من أنه إذا استمرت أنماط الاستهلاك الحالية ونُهج إدارة المخلفات، فسيحاصرنا 12 مليار طن من النفايات البلاستيكية في المحيطات والبيئة بحلول عام 2050.

تاريخ التعبئة الذكية

 ويشرح م.ل.روني، باحث علوم وتكنولوجيا الأغذية، في كتابه “تعبئة الطعام النشطة”، الصادر عام 1995، الاختلاف بين التعبئة التقليدية والتعبئة الذكية أو النشطة، ويقول: إن مواد التعبئة التقليدية تستهدف تجنُّب التفاعلات غير المرغوب فيها مع الطعام عبر توفير حاجز “خامل” للتأثيرات الخارجية، في حين عمدت أبحاث التعبئة النشطة خلال عقدين ماضيين، إلى ابتكار مجموعة واسعة من مواد التغليف “النشطة” أو تطويرها بحيث تتفاعل مع الطعام لأداء أدوار إضافية للحفاظ على جودة الطعام وسلامته، معتمدةً على التأثيرات الكيميائية والفيزيائية.

وأشار إلى أن مصطلح “التعبئة النشطة” تَطوَّر عبر سلسلة من الأبحاث المستجيبة لمشكلات عديدة، لا رابط بينها، وإن كانت جميعها تتعلق بالحفاظ على جودة الطعام وسلامته.

وطُرحت مواد التعبئة النشطة والذكية لأول مرة في الأسواق عام 1970 في اليابان، وانتشرت ببطء في مناطق أخرى على مر السنوات، وتُوجَد حاليًّا في الولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا.

وتتوقع دراسة بريطانية بعنوان “التعبئة الذكية: الفرص والتحديات” أن تصل السوق العالمية للتعبئة الذكية إلى 26.7 مليار دولار بحلول عام 2024 بعد أن تغزو أسواقًا جديدة.

وتشير الدراسة إلى عدد من المزايا تقدمها نظم التعبئة الذكية المزودة بأجهزة الاستشعار، كمراقبة نضارة الثمار، وعرض معلومات عن الجودة ودرجة الحرارة وتسرُّب الغاز والتلوث الميكروبي، وتحسين سلامة المنتج، وإطالة عمره الافتراضي.

وتشمل تقنيات التعبئة النشطة الأنظمة التي تمتص الأكسجين والإيثيلين والرطوبة وثاني أكسيد الكربون والروائح، وكذلك الأنظمة التي تطلق ثاني أكسيد الكربون، والإيثانول، ومضادات الميكروبات، ومضادات الأكسدة والنكهات، والتي تتحكم في الحرارة، وفق رسالة دكتوراة لأنا سفينسون، باحثة سويدية بجامعة كارلستاد، بعنوان “تعبئة الطعام النشطة: المواد والتفاعلات”.

وعلى الرغم من كل هذه المزايا، إلا أن كثيرًا من مواد التعبئة لا تزال تُصنع من مواد غير قابلة للتحلل، وذلك لأنه ليس من السهل استغلال البوليمرات الحيوية لتصنيع مواد التغليف؛ بسبب ضعف الميكانيكية والخصائص الحرارية مقارنةً بالبوليمرات المصنوعة من النفط (البلاستيك)، وتركز الأبحاث حاليًّا على تحسين خصائص بالبوليمرات الحيوية عبر تقنيات مختلفة، منها النانوتكنولجي، وفق ما طرحته عن دراسةماليزية حول استخدام النانوتكنولوجي في تطوير مواد التغليف.

تقول صفاء أبو زيد -باحث بقسم الصناعات الغذائية في القومي للبحوث، وإحدى باحثات مشروع التعبئة الذكية- لـ”للعلم”: إن الجديد في مشروعهم هو التوازن بين تقنيات التعبئة الذكية الهادفة إلى راحة المستهلك وإرضائه والحفاظ على سلامة غذائه، وتقديم منتج صديق للبيئة، قابل للتحلُّل وتجديد نفسه، إضافةً إلى الاعتماد على مواد محلية في أبحاثنا لتطوير أفلام غذائية مصرية 100%.

وعلى سبيل المثال، قيَّم باحثو المركز في أحد أبحاثهم -الذي نُشر عام 2013- النشاطَ المضادَّ للميكروبات للزيوت العطرية المشتقة من النبات، مثل (القرفة والزعتر والكمون)، بعد إضافتها إلى الأفلام الغذائية بتركيزات معينة لإطالة عمرها الافتراضي، وكشف البحث –الذي حصلت مُعدَّة التقرير على نسخة منه- أن الزعتر أظهر أقوى نشاط مضاد للجراثيم، تليه القرفة، في حين أظهر الكمون أقل نشاط في مواجهة 4 أنواع من الجراثيم.

آفاق مستقبلية

ويتفق هذا الطرح مع الدراسة البريطانية التعبئة الذكية: الفرص والتحديات في ضرورة تركيز الأبحاث المستقبلية على العوامل المضادة للميكروبات المشتقة من مواد طبيعية، والابتعاد عن المواد الصناعية الضارة، والاعتماد على مواد التغليف المصنوعة من مواد حيوية قابلة للتحلل. وأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى زيادة سلامة الأغذية وإطالة فترة الصلاحية.

وطرحت الدراسة تصوُّرات عن مستقبل أجهزة الاستشعار، وضرورة أن تعتمد على تقنيات النانو منخفضة التكلفة، وأن تكون سهلة الاستخدام، وصديقةً للبيئة، وتقدم للمستهلك المزيد من المعلومات عن المنتج، بما في ذلك مستوى الأكسجين ودرجة الحرارة ومستوى الحموضة وغيرها.

وتتفق مني عبد المجيد -أستاذ التغذية والتعبئة والتغليف بجامعة القاهرة- مع تلك التوصيات، قائلةً لـ”للعلم”: إن خروج هذه التجارب المعملية للسوق المصرية من شأنه أن يُسهم في حل عددٍ من المشكلات التي تواجهنا، مثل تقليل هدر الطعام واستهلاك البلاستيك، وما ينتج عنه من أضرار صحية وبيئية، إلا أن نجاحها مرهون بالقدرة على توفير العبوات الذكية بسعر يناسب المواطن ويحظى بدعم الصناعة.

credit: greenish تشير دراسات إلى أن مجموع الأضرار الاقتصادية والبيئية والصحية التي لحقت العالم بسبب البلاستيك البحري لا تقل عن 13 مليار دولار سنويًّا

ومن جانبه يقول خالد أبو المكارم -رئيس شعبة البلاستيك في اتحاد الصناعات- لـ”للعلم”: إن صناعة البلاستيك تدخل في جميع القطاعات، بما في ذلك التعبئة والتغليف والمواسير والأدوات المنزلية وقطع الغيار والأدوات الهندسية والمكتبية وغيرها، ويبلغ حجم الاستثمار في الصناعات البلاستيكية في مصر 702 مليار دولار سنويًّا، مضيفًا أنه “في تزايد مستمر”.

ويرى أنه “من الصعب أن تندثر صناعة البلاستيك في الوقت الحالي، خاصةً أنها صناعة قابلة للتطوير باستمرار”.

وأشار إلى أن شعبة البلاستيك قامت -بالتعاون مع وزارة البيئة- بمبادرة لإنتاج البلاستيك القابل للتحلل، بحضور المصانع ومجموعة شركات الهايبر الكبيرة داخل مصر؛ لتحديد الكميات المطلوبة والاتفاق على تصنيعها مع المصانع، ولكن وجدوا أن التكلفة ستكون أعلى بكثير من التكلفة الحالية لإضافة مادة داخل التصنيع لتكون الأكياس قابلةً لتتحلل.

في حين ترى ريهام رفعت -أخصائية تقييم أثر بيئي بشركة أنفريوس الهادفة للتوعية ضد البلاستيك- ضرورةَ دعم الدولة لمثل هذه المبادرات الهادفة إلى تقليل استهلاك البلاستيك، وتضيف: “إذا قارنَّا الخسائر الناجمة عن استهلاك البلاستيك بتكلفة تطوير هذه المواد الذكية التي لن يتبقى لها أثر بعد استخدامها فسنجد أنها أقل عبئًا على الاقتصاد والبيئة”.

وتشير دراسات إلى أن مجموع الأضرار الاقتصادية والبيئية والصحية التي لحقت العالم بسبب البلاستيك البحري لا تقل عن 13 مليار دولار سنويًّا، وفق تقرير للأمم المتحدة للبيئة.

ويشير شادي عبد الله -شريك مؤسس في شركة جرينش الهادفة إلى إيجاد بدائل للبلاستيك- إلى أن هناك60 دولة تدخلت لوقف تلوث البلاستيك عبر إصدار قرارات بمنعه كليًّا أو جزئيًّا وإيجاد بدائل له، وأننا بحاجة إلىo قرارات مماثلة، بما يسمح بخلق بدائل للبلاستيك والاستغناء عنه تدريجيًّا.

وتتطلب عملية التحوُّل الكامل من البلاستيك “صديق الصناعة” إلى المواد الحيوية “صديقة البيئة” المزيد من هذه الأبحاث، لخلق بدائل ذكية واقتصادية.

المصدر

Exit mobile version