جاك بريجر.. أحد الآباء المؤسسين لطب الشوارع

عادة ما يذهب الناس عندما يمرضون إلى الأطباء في عياداتهم، ومستشفياتهم، وأحيانا ما يذهب الأطباء للمرضى في مساكنهم حينما يعجزون عن زيارة الطبيب، لكن من النادر أن يذهب الأطباء للقيام بواجبهم في تطبيب الناس وتطييب جراحهم وعلاج أمراضهم في الشوارع، لمن يسكنون فيها ولا يجدون مأوى يؤيهم أو لمن لا يجدون مالا يذهبون به إلى للعيادات والمستشفيات، لكن بعض الأطباء خرجوا عن هذه القاعدة، وفعلوا هذا الفعل النادر، وكان لهم السبق في ذلك، فأسسوا فرعا طبيا جديدا، صار يعرف اليوم باسم طب الشوارع أو Street Medicine، ومن هؤلاء الطبيب البريطاني جاك بريجر Jack Preger، والذي يعتبره البعض الأب المؤسس لهذا النوع من الطب.
عن جاك بريجر تقول الويكيبيديا أنه ولد في 25 يوليو 1930، في مدينة مانشستر بإنجلترا، وتخرج من سانت إدموند هول St Edmund Hall في جامعة أكسفورد بشهادة الدراسات العليا في الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم عمل لبضع سنوات كمزارع في ويلز قبل أن يبيع مزرعته ويقرر أن يصبح طبيباً بدلاً من ذلك. وفي عام 1965 تم قبوله في الكلية الملكية للجراحين في دبلن وهو في سن 35 الخامسة والثلاثين، وفي عام 1972، عندما كان قد انتهى لتوه من فترة تدريبه بعد التخرج، وعلى الرغم من أن خططه كانت تكريس حياته للفقراء في أمريكا الجنوبية أو الوسطى، وكان قد أعد نفسه لذلك من خلال تعلم اللغة الإسبانية، إلا إنه قرر الاستجابة لنداء عبر الراديو لتقديم المساعدة الطبية للناس في بنجلاديش المستقلة حديثا.
وبالفعل سافر إلى دكا عاصمة بنجلاديش حيث عمل في ظل ظروف مزرية في مخيمات اللاجئين المليئة بالأشخاص الناطقين باللغة الأوردية الذين كانوا يعتزمون العودة إلى باكستان. وهناك تعلم اللغة الأوردية وبعد ذلك تعلم البنغالية، وفي عام 1975، أنشأ عيادة مكونة من 90 سريرا في دكا ومزرعتين في ضواحي المدينة. غير أن عمله في دكا وصل إلى نهايته المفاجئة عندما اكتشف أن المنظمة الهولندية غير الحكومية Terre des Hommes تحتال لتهريب الأطفال، وومن ثم قام بكشف الأمر على الرغم من أن حكومة بنجاديش حذرته من ذلك، ومن ثم تم ترحيله إلى بانكوك في عام 1979.
وبعد ترحيله من بنجلاديش، ذهب جاك إلى الهند في نفس العام وعمل في كولكاتا لمدة ستة أشهر تحت رعاية مرسلية الأم تيريزا للأعمال الخيرية، ومع ذلك ، انتقد بريجر الظروف غير الكافية في الجمعيات الخيرية للأم تيريزا ، قائلا: “إذا كان المرء يريد أن يعطي الحب والتفاهم والرعاية، يجب على المرء أن يستخدم الإبر المعقمة، وإذا كانت هذه ربما هذا واحدة من أغنى المرسليات في العالم، مع ذلك فإن كثيرا من الموت الذي يحدث هناك لا يجب أن يحدث من وجهة النظر الطبية الدقيقة”.

ومن ثم اعتقد جاك أنه سيكون قادراً على القيام بالمزيد إذا كان يعمل بشكل مستقل، ومن ثم بدأ عيادة للفقراء تحت أحد الجسور في المدينة، ومن ثم طلب الحصول على تصريح عمل لم يتم منحه له في نهاية المطاف.
لكن جاك استطاع أن يؤسس منظمة إنقاذ كلكتا Calcutta Rescue وعمل رئيسا لها حتى يوم 10 يناير 2019، حيث تقاعد من رئاستها بعد أن قضى ما يقرب من 47 عاما في العمل الطبي والتنموي الخيري، حيث تدير المنظمة اليوم ثلاث عيادات ومدرستين ومركزين مهنيين. ويعمل بها 150 موظفًا محليًا.

كما تم تشكيل مجموعات دعم لأعمال جاك في العديد من بلدان العالم، والتي كان معظمها مدفوعًا من قبل السائحين العائدين إلى بلادهم، والذين شهدوا عمله الخيري سواء أكانوا من إنجلترا أو سويسرا أو فرنسا أو ألمانيا أو النرويج أو غيرها، لكن في عام 1980، لاحظ مكتب تسجيل الأجانب (FRO) التابع لحكومة غرب البنغال أن جاك قد وافق على تبرع من منظمة تبشيرية مقرها في الولايات المتحدة، وطالبه بأن يعلن نفسه كمبشر، بالإضافة إلى كونه طبيبًا. ولم يحل هذا الأمر إلا بعد أن شرح للمسؤولين في نيودلهي أنه ليس مبشرا، وأن منظمته إنقاذ كلكتا علمانية تماما، وكان يسمح له بالبقاء في كلكتا دون تأشيرة. وفي عام 1981، اتهمه مكتب FRO بدخول الهند دون تأشيرة تبشيرية، لكنه أفرج عنه بكفالة. وفي عام 1989 أسقط FRO التهمة بعد تدخل المفوض العالي آنذاك في نيوزيلندا إلى الهند، السير إدموند هيلاري.
وفي عام 1991 قام الدكتور جاك بتسجيل إنقاذ كلكتا كمؤسسة خيرية، وبدأ عيادتين أخريين في كولكاتا وتلقى تبرعات من ثماني دول أوروبية، وحصل أيضًا على تصريح إقامة. ومع ذلك، رفضت الحكومة منحه الموافقة اللازمة لقبول التبرعات الأجنبية. فرفع دعوى قضائية ضد الحكومة في محاكم كولكاتا. وفي النهاية، ألغت المحكمة رفض الحكومة، وتم السماح له بقبول 1.5 مليون روبية شهريًا في شكل تبرعات.
حول جاك كتبت صفحة إنقاذ كلكتا على الفيسبوك بمناسبة تقاعده: يتقاعد الدكتور جاك بعد 40 عامًا لمساعدة أفقر فقراء كلكتا، بعد أربعين عاماً من فتحه حقيبته الطبية وبدءه في علاج أفقر الفقراء على أرصفة كلكتا ، قرر الدكتور جاك بريجر التقاعد. وهو الآن يبلغ من العمر 88 عامًا، ويحرص على العودة إلى المملكة المتحدة، وفي منتصف يناير سوف يغادر المدينة التي عاش وعمل فيها طوال أربعة عقود.

على مدار تلك العقود، ساعد الدكتور جاك أكثر من 500 ألف شخص وأقام جمعية خيرية حائزة على جوائز، إنقاذ كلكتا Calcutta Rescue والتي توفر العلاج الطبي والتعليم للأشخاص الذين يعيشون في بعض الأحياء الفقيرة الأكثر حرمانًا في المدينة. يُنظر إلى الطبيب البريطاني –جاك – على نطاق واسع على أنه الأب المؤسس لـ”طب الشوارع”، وقد ساعد في إطلاق العديد من الممارسات المستخدمة الآن لعلاج الفقراء في جميع أنحاء العالم. وكعمل أخير من أعماله كرئيس لإنقاذ كلكتا، منح الدكتور جاك اليوم شرف كشف الستار عن حجر الأساس في موقع المركز التعليمي الجديد في شمال كولكاتا. وفي نفس الوقت هناك حملة لجمع التبرعات لتجديد المبنى القديم الذي عند فتحه سوف يدعم حوالي 350 طفلاً من الأحياء الفقيرة المجاورة.
تكريما لأعماله، حصل الدكتور جاك عام 1993 على وسام الإمبراطورية البريطانية بسبب “مثابرته المستمرة ونكرانه للذات الذي لا يصدق”، وفي عام 2017، تم اختياره كـ”محسن العام أو Philanthropist of the Year” من قبل مؤسسة إيشيان أورادز Asian Awards في حفل أقيم في لندن في الخامس من مايو عام 2017، وفي وصفه قال موقع الجائزة الأخيرة: هناك عدد قليل من الناس في العالم الذين هم مثال محض للعمل الخيري مثل الدكتور جاك بريجر (..) بحلول عام 1980 وجد نفسه يفتح عيادة مستقلة في كولكاتا. افتتح عيادة الرصيف هذه ستة أيام في الأسبوع طوال الأربعة عشر عامًا التالية وساعدت عددًا لا يحصى من المرضى.

واليوم، يواصل بريجر عمله في المدينة، حيث يقدم أفضل الممارسات الطبية والطب لمن هم في أمس الحاجة إليه في 26 أكتوبر 2016 تم إصدار فيلم وثائقي عن حياته وعمله بعنوان” دكتور جاك ” في سويسرا. قام بتأسيس إنقاذ كلكتا التي تم تكريمها ضمن جوائز المنظمات غير الحكومية الهندية لعام 2009 عن “توفير الموارد الإبداعية والإدارة المالية والحوكمة والتأثير في المجتمع”، وعلى الرغم من تعرضه للمضايقًات بشكل منتظم، فإن بريجر مثابر وما زال يمثل اليوم ثورة في الرعاية الصحية بين أكثر الأشخاص اضطراباً في كولكاتا.
لا شك أن تلك الأسطر القليلة لا تستطيع أن تحيط بمسيرة 47 عاما لرجل بدأ حياته المهنية الطبية وهو في سن الثانية والأربعين، أمر عسير. يكفي أن أفتح شهيتكم للمزيد من البحث عن حياته وحياة أمثاله.

د. مجدى سعيد

Exit mobile version