جول بورديه.. البلجيكي الذي “تمم المناعة” واكتشف “خواصها الدفاعية”

على حدودِ مدينةِ “بروكسل” البلجيكيةِ، تقعُ محطةُ قطاراتِ “بورديه” القريبةُ إلى بلديةِ “إيفير”. تُمثلُ تلكَ المحطةُ همزةَ الوصلِ بينَ العاصمةِ وتلكَ الضاحيةِ البعيدةِ، تمامًا كما مثَّلَ مَنْ سُميتْ على اسمِهِ حلقةَ وصلٍ بينَ علومِ القرنِ التاسعَ عشَرَ ومعارِفِ القرنِ العشرين.

في عامِ ألفٍ وثمانِمِئةٍ وسبعينَ؛ وُلِدَ عالِمُ الأحياءِ الدقيقةِ البلجيكيُّ “جول بورديه”. الذي حصلَ على جائزةِ نوبل في الطبِّ عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعَةَ عشَرَ، تقديرًا لجهودِهِ في اكتشافِ آلياتٍ مناعيةٍ تُساعدُ على تحصينِ أجسامِنا ضدَّ العدوى.

وُلِدَ “بورديه” في مدينةٍ تقعُ جنوبيَّ غربِ العاصمةِ البلجيكيةِ، لأبٍ يعملُ مُدرسًا. في أثناءِ طفولتِهِ المبكرةِ، اضطُرَّ والدُهُ إلى الانتقالِ لمدينةِ “بروكسل”؛ للعملِ في إحدى مدارسِها الثانوية. ترعرعَ “بورديه” على حُبِّ الكيمياءِ، وأنشأَ مُختبرًا مؤقتًا في عِليةِ منزلِ أسرتِه. كانَ يُجري فيهِ بعضَ التجاربَ الخطِرة؛ لكنْ؛ تحتَ إشرافِ والدِهِ الذي أدركَ ميولَ طفلِهِ العلميةَ منذُ البداية.

في سنِّ السادسةَ عشْرةَ؛ التحقَ “بورديه” بجامعةِ بروكسل الحرةِ؛ لدراسةِ الطبِّ؛ حصلَ على شهادتِهِ العُليا في أربعِ سنواتٍ فقط عوضًا عنْ خَمسِ سنوات؛ لترسلَهُ الحكومةُ إلى معهدِ باستور الشهيرِ لدراسةِ الميكروباتِ والكائناتِ الدقيقة.

هناكَ؛ وقعَ الشابُّ في غرامِ ذلكَ العلمِ؛ وبدأَ مبكرًا في محاولةِ معرفةِ آلياتِ دفاعِ الجسمِ ضدَّ المُمْرِضاتِ المختلفة.

في عامِ ألفٍ وثمانِمئَةٍ وخمسةٍ وتسعينَ؛ وفي أثناءِ عملِ “بورديه” في مختبرِ إيلي ميتشينكوف بمعهدِ باستور. اكتشَفَ ظاهرةً مُدهشةً، كانَ لها عظيمُ الأثَرِ في فهمِها الحاليِّ لآلياتِ المناعة.

وقتَها؛ كانَ “بورديه” يدرسُ الظاهرةَ المعروفةَ باسمِ التحلُّلِ البكتيري، التي وصفَها العالِمُ “ريتشارد فايفر” في عامِ ألفٍ وثمانِمئَةٍ وأربعةٍ وتسعينَ لأولِ مرة. اكتشفَ “فايفر” تلكَ الظاهرةَ عندما قامَ بحَقنِ بكتيريا الكوليرا في التجويفِ البطنيِّ للخنازيرِ. ليُلاحِظَ أنَّ تلكَ البكتيريا تتكسَّرُ وتتحللُ داخلَ أمعاءِ الخنازيرِ. استنتجَ “فايفر” أنَّ الخلايا الموجودةَ في التجويفِ البطنيِّ للخنازيرِ تؤدي دورًا مركزيًّا في عمليةِ التحلُّلِ تلك.

قامَ “بورديه” بتجربةِ تركيباتٍ مختلفةٍ من بكتيريا الكوليرا ومضاداتِ الأمصالِ، ليكتشفَ أنَّها تسببُ هيَ الأخرى تحلُّلَ البكتيريا خلالَ عمليةٍ معقدةٍ أطلقَ عليها “نظامَ متمِّمِ المناعة”.

توصَّلَ “بورديه” إلى وجودِ قدرةٍ فطريةٍ في جهازِنا المناعيِّ تُعزِّزُ منَ القضاءِ على الكائناتِ المُمْرضةِ؛ والخلايا التالفةِ؛ والالتهاباتِ؛ وتُهاجمُ غشاءَ الميكروباتِ البلازميِّ؛ عبرَ “بلعِها” وتحليلِها إلى مكوناتٍ حيويةٍ غيرِ ضارَّة.

كما اكتشفَ أيضًا أنَّ الأمصالَ تحتوي على مادتينِ يجبُ أنْ يُوجدا معًا لمنحِ المصلِ خاصيةَ مقاومةِ البكتيريا؛ أُولى تلكَ الموادِّ هيَ الأضدادُ المناعيةُ التي تعملُ ضدَّ المستضدات؛ أمَّا المادةُ الثانيةُ فهيَ “المُتممُ المناعيُّ”، وهيَ لازمةٌ لتنشيطِ المادةِ الأولى. وقالَ إنَّ ذلكَ المُتمِّمَ يتحللُ بالكاملِ في درجاتِ الحرارةِ العالية.

واستنتجَ “بورديه” أنَّ نجاحَ الأمصالِ يعتمدُ على تكملةِ البروتيناتِ الموجودةِ أيضًا في الدمِ غيرِ المحصَّنِ. إذْ ترتبطُ الأجسامُ المضادةُ والبروتيناتُ التكميليةُ بعضُها ببعض، وقالَ إنَّ تلكَ البروتيناتِ يمكنُ استخدامُها للكشفِ عنْ بعضِ الأمراضِ، بما في ذلكَ مرضُ الزهري.

وفي عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ وواحدٍ، عادَ “بورديه” إلى بلجيكا مرةً أخرى؛ ليتسلَّمَ رئاسةَ معهدِ مكافحةِ داءِ الكلبِ، الذي أطلقَتْ عليهِ الحكومةُ البلجيكيةُ اسمَ “باستور” تقديرًا لجهودِ هذا الرجلِ، ومعملِه، في تعليمِ أبناءِ بلجيكا وتثقيفِهم.

وعلى مدى العقودِ الأربعةِ التاليةِ، شغَلَ “بورديه” منصبَ مديرِ معهدِ باستور في بروكسل. وكانَ أيضًا أستاذًا لعلمِ الجراثيمِ في جامعةِ بروكسل. وطوالَ تلكَ السنواتِ؛ أنجزَ مجموعةً كبيرًة منَ الأبحاثِ التجريبيةِ؛ وتوقَّفَ فقط عنْ أداءِ مهمتِهِ منْ عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وأربعةَ عشَرَ إلى عامِ ألفٍ وتسعِمئةٍ وثمانيةَ عشَرَ، بسببِ الاحتلالِ الألمانيِّ لبلجيكا، الذي جعلَ البحثَ العلميَّ مهنةً مستحيلة!

وخلالَ فترةِ انقطاعِهِ عنِ العملِ في البحثِ العلميِّ، ألَّفَ “بورديه” مجموعةً منَ الكتبِ حولَ الأمراضِ المُعدية، والمناعةِ، وسافرَ إلى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ في جولةٍ لجمعِ الأموالِ اللازمةِ لإجراءِ البحوثِ والتجاربِ العلميةِ في معملِه، حتَّى إنهُ لمْ يتمكنْ منَ العودةِ إلى أوروبا في الوقتِ المناسبِ لحضورِ حفلِ تسليمِ جائزةِ نوبل.

في أواخرِ ثلاثينياتِ القرنِ العشرين؛ أصبحَ بورديه أستاذًا فخريًّا في جامعةِ بروكسل؛ وبعدَ ثلاثِ سنواتٍ؛ وعندما احتلتْ ألمانيا بلجيكا مرةً أخرى؛ استقالَ منْ منصبِهِ في معهدِ باستور وسلَّمَ الإدارةَ إلى ابنِهِ “بول”. تدهورتْ حدَّةُ نظرِهِ؛ غيرَ أنَّهُ استمرَّ في زيارةِ المعهدِ منْ حينٍ إلى آخرَ لإلقاءِ المحاضراتِ حتى وافتَهُ المَنِيَّةُ في منزلِه بمدينةِ بروكسل عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وواحدٍ وستينَ عنْ عُمرٍ يناهزُ التسعينَ عامًا.

المصدر: scientificamerican

Exit mobile version