ومؤخرًا، كشفت دراسة حديثة نُشرت نتائجها في دورية “نيتشر أسترونومي” عن خوارزمية جديدة يُمكن أن تساعد الباحثين في فهم أجواء الكواكب ومناخها العاصف بشكل أفضل. فالبرنامج المُسمى “بلانت نت” الذي يتبع فئةً من تقنيات الذكاء الاصطناعي تُسمى بـ”التعلم العميق” يستخدم بيانات تم جمعها بواسطة مركبة الفضاء “كاسيني” التابعة لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، والتي درست كوكب “زُحل” عن قرب خلال سنوات عديدة قضتها بالقرب من العملاق الغازي.
وتوفر دراسة الغيوم والعواصف رؤيةً فريدةً للعمليات الكيميائية والفيزيائية لكواكب المجموعة الشمسية؛ إذ تتيح تحديد الخصائص الدالة على تركيبة الغيوم فهم أفضل لديناميات الغلاف الجوي. وتقوم البعثات الفضائية بإنتاج مجموعات كبيرة من البيانات عالية الجودة، ولكن، ومع الكم الهائل لتلك المعلومات، لا يستطيع العلماء دراسة الكواكب بصورة كاملة إلا بعد تلقي البيانات بوقت طويل؛ إذ يستلزم التعامل معها إجراء عمليات فرز مُطولة، تستهلك الكثير من الوقت والجهد.
وعلى الرغم من أن المركبة جمعت كمياتٍ هائلةً من البيانات، غير أن التقنيات الكلاسكية لتحليلها لم تنجح بعد في الاستفادة الكاملة منها، فلتحليل المعلومات، يتوجب على العلماء النظر فيها، وفرزها، وتصنيفها، ثم العمل على كل جزء منها بطريقة يدوية، وإجراء الحسابات المنطقية، واستخدام البرامج الحاسوبية لمعرفة الفروق الضئيلة بين المعلومات. تستلزم تلك الطريقة شهورًا طويلة، وقد تمتد لسنوات. أما تقنيات التعلُّم العميق، فتقوم بتحليل الظواهر في خطوات بسيطة للغاية.
تظهر الصورة عاصفة في جو كوكب زحل. الصورة مأخوذة بواسطة كاميرا المركبة الفضائية كاسيني واسعة الزاوية في 4 مارس 2008، على مسافة حوالي 800000 ميل. Credit: NASA/JPL/Space Science Institute
تقنيات التعلُّم العميق
في البداية يقوم الخبراء بتزويد الحاسوب بالمعلومات والبيانات دون فرزها أو تصنيفها، ثم يقوم برنامج حاسوبي صُمِّم وفقًا لقواعد تقنيات التعلُّم العميق في البحث عن الأنماط المتشابهة في البيانات، ويُعيد ترتيبها، وربط بعضها ببعض، بناءً على سماتها الفيزيائية وخواصها الكيميائية.
وتعمل تقنيات التعلُّم العميق بطريقة مُشابهة للكيفية التي تعمل بها الخلايا العصبية عند البشر؛ إذ يقوم البرنامج بإجراء تسلسل هرمي للمعلومات، عن طريق تصنيفها بشكل مباشر، تحل الخوازميات -مجموعة من المعادلات الرياضية والمنطقية التي تقوم بدراسة المشكلات وحلها- محل الخلايا العصبية البشرية؛ إذ يرتبط بعضها ببعض في شبكة عصبونية آلية، تنشئ نماذج إحصائية غرضها الأساسي فرز البيانات وتصنيفها، ومعالجتها بدقة وبسرعة لإنشاء نماذج تتنبأ بحل المشكلة، أو صياغة تلك البيانات بصورة أكثر شموليةً وتفصيلًا، تتيح للعلماء النظر فيها بسهولة ويُسر.
فعلى سبيل المثال، حين يُعطي الخبراء أمرًا للبرنامج بعمل خريطة للغلاف الجوي لكوكب زُحل، يبدأ “بلانت نت” في البحث عن معلومات الغلاف الجوي من قاعدة البيانات الضخمة التي زوده بها الخبراء، ثم يقوم بعملية استبعاد منطقية للمعلومات غير المهمة، فمثلًا يستبعد البيانات الخاصة بسطح الكوكب، أو بتربته، بينما يحتفظ بالمعلومات الخاصة بتركيز الغازات في الهواء، أو بمدى نفاذية أشعة الشمس، وفي الخطوة التالية، يبحث البرنامج عن خرائط الغلاف الجوي للكواكب المختلفة، ليتعلم –ذاتيًّا- الطريقة التي يُمكن أن يرسم بها تلك الخريطة. وفي الخطوة الأخيرة، يقوم البرنامج بمراجعة البيانات مرة أخرى تمهيديًّا لرسم الخريطة المطلوبة.
للكشف عن دقة استخراج البيانات وتمثيلها بشكل مرئي، قام العلماء بإجراء تحدٍّ للبرنامج، إذ طالبوه برسم خريطة للمكونات المختلفة لسطح كوكب زحل باستخدام معلومات مُستقاة من المسبار “كاسيني”، فجاءت دقة الخريطة قريبةً جدًّا لتلك المعروفة سلفًا، والتي قام العلماء برسمها عن طريق استخراج المعلومات يدويًّا.
رؤى جديدة للغاية
حين تأكد الفريق البحثي من دقة البرنامج، طلبوا منه دراسة العواصف على سطح “زحل”، ليجدوا أن البرنامج قدم لهم رؤى جديدة للغاية، لم تكن معروفةً سلفًا عن عواصف ذلك الكوكب.
فـ”بلانت نت” قال إن الأمونيا شائعة في الغلاف الجوي لـ”زحل”، وهي معلومة كانت معروفة سلفًا، إلا أن البرنامج استنتج أن الأمونيا هي المسؤولة عن تكوين عاصفة جليدية في منطقة مُظلمة لم تُلاحَظ من قبل. وهو أمر أعطى نظرة ثاقبة لديناميات الكوكب، وكشف عن وجود عواصف أخرى لم تُلحظ إطلاقًا من قِبَل العلماء.
لم يكتفِ البرنامج بذلك فحسب، بل قام برسم خريطة شديدة الدقة لعواصف زُحل، شملت مسارات الرياح، واتجاهها، والاختلافات بين سرعتها، وكذلك توقيت اندلاعها وانتهائها، على حد قول مؤلف الدراسة “إنجو والدمان”، الذي يعمل مديرًا لمركز البيانات والفضاء والكواكب الخارجية بـ”لندن كوليدج”، والذي يؤكد أن تلك الخريطة “هي الأولى من نوعها في تاريخ كوكب زُحل”.
ويقول “إنجو”: إن دقة البرنامج لا تعني مطلقًا أن الذكاء الاصطناعي يُمكن أن يحل محل البشر في المستقبل، مشيرًا في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أن تقنيات التعلُّم العميق “يُمكن أن تزيد من كم البيانات المدروسة”؛ إذ تُعد تلك الأنظمة “أفضل بكثير في تحليل الكميات المهولة من البيانات غير المرتبة، ما يعني إعطاء فهم أكثر شموليةً لتلك المعلومات”.
ويرى “إنجو” أن المزيد من الدراسات المُفصلة المستقبلية ستخبرنا عما إذا كان استخدام برامج التعلم العميق صالحًا لدراسة الأنماط غير المتشابهة؛ “فميزة العقول البشرية قدرتها الفذة على التعامل مع ذلك النوع من الأنماط، ودراستها، وربط بعضها مع بعض للوصول إلى نتيجة منطقية، لن تخطر (على بال) أي برنامج ذكاء اصطناعي”.
استغرق العمل على الورقة العلمية عامًا واحدًا فقط، أما الخوارزمية فقد كتبها الباحثان في حوالي أسبوعين فقط، وبمجرد الانتهاء منها، استغرق الحصول على النتائج النهائية 10 دقائق فقط.
ويقول “إنجو” إن الخطوة التالية هي رسم خرائط جيولوجية لأسطح كواكب المريخ، والزهرة وغيرها من كواكب المجموعة الشمسية.
وفي إجابة عن تساؤل لـ”للعلم” حول ما إذا كان البرنامج يستطيع رسم خرائط للشمس عبر معالجة البيانات الواردة من “مسبار باركر” المتجه نحو الشمس لاستكشاف الهالة الخارجية، يقول الباحث إنه لم يُفكر قَط في رسم خريطة للشمس، إلا أن “الفكرة جيدة للغاية”، وسيقوم بتعديل البرنامج للتعامل مع بيانات “باركر” لعمل أول خريطة للشمس يقوم برسمها برنامج تعلُّم عميق.
ليست المحاولة الأولى
ليست تلك هي المحاولة الأولى لدراسة الكواكب باستخدام تقنيات التعلم العميق، فقبل شهر، أعلن باحثون استخدام تلك الطريقة لتحليل بيانات مهمة “كبلر” التابعة لناسا؛ للبحث عن الكواكب التي تُشبه الأرض. قام هؤلاء الباحثون بتحليل الأنماط المتشابهة في الصور التي التقطها كبلر وترجمها في نقاط معلوماتية بلغ عددها 14 مليار نقطة بيانات، إلا أن نتائج تلك الدراسة لم تظهر بعد.
وتقول “آن ديتليو” الباحثة في مشروع تحليل بيانات “كبلر”، الذي تنفذه شركة البرمجيات العملاقة “جوجل” بالتعاون مع جامعة “تكساس” الأمريكية: إن نتائج الدراسة الخاصة بكوكب زحل “مُلهمة بحق”؛ فتقنيات التعلم العميق “تثبت جدواها يومًا بعد يوم”، ما يعني أن مستقبلها “مُشرق للغاية”.
وتشير “ديتليو” في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أن القدرات المهولة التي تتمتع بها خوازميات التعلم العميق ستسهم في شتى المجالات العلمية في المستقبل؛ “إذ إن الكومبيوتر يستطيع تجميع المعلومات الدقيقة لتكوين صورة بديعة شاملة من قطع فسيفساء صغيرة”، تلك القطع التي ربما يصعب على العين البشرية التقاطها.
وترى الباحثة أن “التعلم العميق” لم يُزِح البشر على الإطلاق عن دورهم في معالجة مثل هذه العمليات، بل “سيتكامل معهم لجعل البيانات الكبيرة أكثر قابليةً للفهم، ما سينعكس على فهم الحقيقة الكاملة التي تُشكل “المسعى الرئيسي للبشر”؛ إذ “سيندمجون أكثر في المستقبل مع تقنيات الذكاء الصناعي، ولا سيما تقنيات التعلم العميق”.