ديفيد كورترايت: صوت السلام في زمن الحرب

ديفيد كورترايت صوت السلام في زمن الحرب | على الرغم من أن الرأي العام الأمريكي والغربي كان ما يزال أسيرًا للخطاب السياسي والإعلامي السائد بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، فإن لحظة التحضير لغزو العراق عام 2003 كانت نقطة فاصلة في الوعي الإنساني والسياسي العالمي. فقد خرجت الملايين من البشر في شوارع العواصم والمدن الكبرى للتعبير عن رفضهم للحرب الأمريكية البريطانية على العراق، في مشهد غير مسبوق من التعبير السلمي الجماعي.

ديفيد كورترايت وتأسيس مرحلة جديدة من الوعي


يقول الدكتور مجدي سعيد هذا الحراك التاريخي الذي بلغ ذروته يوم 15 فبراير 2003 لم يمنع الغزو فعليًا، لكنه أسّس لمرحلة جديدة من الوعي الجمعي المعارض للحروب، ووُصف حينها بأنه “قوة عظمى سلمية – A Peaceful Superpower”، وهو الوصف الذي خلّده الكاتب والباحث الأمريكي ديفيد كورترايت في كتابه الشهير الذي حمل العنوان ذاته.

العالم بعد 11 سبتمبر: خوف يقود إلى الحرب

شكلت أحداث 11 سبتمبر نقطة تحول حاسمة في السياسة الأمريكية والدولية. إذ تزايدت نزعة الخوف في المجتمعات الغربية من “الآخر”، وأُعيد تشكيل الرأي العام تحت ضغط الخطاب الرسمي الذي روّج لفكرة “الحرب على الإرهاب”.
استغلت الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش الابن هذا المناخ النفسي لتبرير غزو العراق عام 2003، بحجة امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل، رغم غياب الأدلة القطعية على ذلك. وانضمت بريطانيا وعدد من الحلفاء إلى هذا المشروع العسكري الذي رآه كثيرون استمرارًا لسياسات الهيمنة وليس لمكافحة الإرهاب.

لكن المدهش أن المجتمعات الغربية نفسها، التي كان يُفترض أن تدعم حكوماتها، شهدت انقسامًا حادًا في المواقف. ففي مواجهة خطاب الخوف والانتقام، برزت أصوات تنادي بالسلام والعدالة، مطالبة بإيقاف آلة الحرب. وهنا ظهر الدور الكبير الذي لعبه ديفيد كورترايت كأحد رموز الحركة السلمية العالمية.

15 فبراير 2003: يوم السلام العالمي

في ذلك اليوم التاريخي خرج أكثر من 30 مليون إنسان في أكثر من 600 مدينة حول العالم، من لندن إلى روما، ومن نيويورك إلى سيدني، ومن القاهرة إلى طوكيو، في مظاهرات سلمية ضخمة ضد الحرب.
وصفت صحيفة نيويورك تايمز هذه الاحتجاجات بأنها “الاحتجاجات الأكبر في التاريخ الإنساني” حتى ذلك الوقت. وقد كتب الصحفي الأمريكي باتريك تايلر مقالًا بعنوان “A New Superpower”، في إشارة إلى أن الشعوب أصبحت قوة عظمى سلمية في مواجهة قوى الحرب.
هذا التعبير التقطه ديفيد كورترايت ليجعل منه عنوانًا لكتابه الصادر عام 2004:

A Peaceful Superpower: The Movement Against War in Iraq
وفيه قام بتوثيق تفاصيل هذا الحراك، منطلقًا من تجربته الشخصية كأكاديمي وناشط سلام شارك بنفسه في تنظيم الاحتجاجات داخل الولايات المتحدة.

من فيتنام إلى العراق: رحلة ديفيد كورترايت في مسار السلام

لم تكن مشاركة ديفيد كورترايت في الحراك المناهض لحرب العراق وليدة اللحظة، بل كانت امتدادًا لمسيرة طويلة من النضال ضد الحروب والعنف.
فقد وُلد كورترايت في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وتخرج من جامعة نوتردام عام 1968، في خضم حرب فيتنام التي هزت الضمير الأمريكي. وبعد تخرجه، خدم كجندي في الجيش الأمريكي، لكنه سرعان ما رفض المشاركة في الحرب، وانضم إلى مجموعة من الجنود المناهضين للقتال، ليصبح أحد رموز حركة الجنود ضد الحرب داخل المؤسسة العسكرية نفسها.

في نوفمبر 1969، كان ديفيد كورترايت واحدًا من 1365 جنديًا أمريكيًا وقعوا على إعلان نُشر في صحيفة نيويورك تايمز يعلن رفضهم للحرب في فيتنام، في موقف شجاع وغير مسبوق.
ثم واصل مسيرته الأكاديمية، فحصل على درجة الماجستير من جامعة نيويورك عام 1970، وأكمل الدكتوراه في معهد دراسات السياسة بواشنطن العاصمة عام 1975، ليجمع بين الفكر والنشاط الميداني في سبيل السلام.

“قوة عظمى سلمية”: توثيق لحراك شعبي غيّر الوعي

في كتابه “A Peaceful Superpower”، لم يكتفِ ديفيد كورترايت بسرد الأحداث أو عرض الصور التاريخية للمظاهرات، بل سعى إلى تحليل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التي جعلت من هذا الحراك حدثًا عالميًا فريدًا.
أبرز ما ركز عليه المؤلف هو قدرة المواطنين العاديين، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، والمثقفين، على توحيد صفوفهم رغم اختلاف الخلفيات والأيديولوجيات. لقد كانت الرسالة الأساسية للحراك – كما يصفها كورترايت – أن الشعوب لم تعد تقبل أن تكون مجرد متفرج في قضايا الحرب والسلام.

كما أشار في تحليله إلى أن فشل الحراك في منع الحرب لا يعني أنه فشل سياسيًا أو أخلاقيًا، لأن الأثر الحقيقي كان في بناء شبكة عالمية من الوعي المدني المناهض للعنف. فقد أعاد هذا الحراك إحياء فكرة الدبلوماسية الشعبية، وأثبت أن الاحتجاج السلمي يمكن أن يكون وسيلة ضغط حقيقية على صناع القرار.

الكتاب الجديد 2023: دروس من الماضي لمستقبل أكثر سلامًا

بعد مرور عقدين على غزو العراق، عاد ديفيد كورترايت في عام 2023 ليصدر كتابًا جديدًا يستخلص فيه الدروس والعبر من ذلك الحراك العالمي، ويرصد تطور الحركات السلمية في عصر التكنولوجيا والإعلام الرقمي.
تناول في هذا العمل الجديد كيف يمكن للمنظمات المدنية والحركات الشبابية أن تستخدم أدوات العصر – مثل وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية – لنشر ثقافة اللاعنف ومناهضة الحروب، مؤكدًا أن السلام لا يصنعه السياسيون وحدهم، بل تصنعه الشعوب الواعية.

وأشار كورترايت إلى أن تجربة 2003 كانت مقدمة لوعي عالمي جديد ضد التدخلات العسكرية، انعكس لاحقًا في مواقف الشعوب من الحروب في أفغانستان، وليبيا، وسوريا، وأوكرانيا، وغيرها. كما دعا في كتابه إلى إعادة تعريف مفهوم الأمن ليشمل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وليس فقط القوة العسكرية.

فكر ديفيد كورترايت: بين الأكاديمية والنشاط

يتميز ديفيد كورترايت بكونه نموذجًا فريدًا يجمع بين الفكر الأكاديمي والعمل الميداني.
فهو أستاذ في جامعة نوتردام، ومدير سابق لمركز Kroc Institute for International Peace Studies، أحد أبرز المراكز العالمية في دراسات السلام وحل النزاعات.
ومن بين أبرز مؤلفاته الأخرى:

لقد جعل من تجربته الشخصية في الحرب والانشقاق عنها مصدرًا لفهم أعمق للسلام، مؤمنًا بأن السلام ليس مجرد غياب الحرب، بل هو نظام حياة وعدالة وتكافؤ بين الشعوب.

التأثير العالمي لديفيد كورترايت

يُعد ديفيد كورترايت اليوم من أبرز منظّري الحركات اللاعنفية في العالم. وقد أسهمت كتبه ومحاضراته في تكوين أجيال من الباحثين والناشطين الذين يعملون في مجال فض النزاعات وبناء السلام.
كما شارك في عدد من المبادرات الأممية والاستشارية، وساهم في تطوير تقارير للأمم المتحدة حول نزع السلاح وتمكين الدبلوماسية الوقائية.
أثره لم يتوقف عند النخب الفكرية، بل امتد إلى الحركات الشبابية والمنظمات الحقوقية، التي وجدت في أعماله مرجعًا وملهمًا لمواصلة النضال السلمي في وجه الحروب والعنف السياسي.

إرث السلام في زمن الاضطراب

عندما ننظر إلى تجربة ديفيد كورترايت، ندرك أن مقاومة الحرب ليست مجرد شعار، بل مسار طويل من الالتزام الأخلاقي والفكري.
لقد استطاع أن يحول تجربة شخصية مؤلمة – من جندي في حرب فيتنام إلى ناشط سلام عالمي – إلى رسالة إنسانية تتجاوز الحدود.
ورغم أن حراك 15 فبراير 2003 لم يمنع غزو العراق، إلا أنه ترك أثرًا لا يُمحى في ضمير الإنسانية، وأثبت أن صوت الشعوب يمكن أن يكون أقوى من طبول الحرب.

إن إرث ديفيد كورترايت اليوم يذكّر العالم بأن القوة الحقيقية ليست في امتلاك السلاح، بل في القدرة على مقاومة العنف بالإيمان بالسلام، وأن “القوة العظمى السلمية” التي ولدت عام 2003 لا تزال حيّة في كل صوت يرفض الظلم ويؤمن بالمستقبل.

Exit mobile version