رتب أهدافك الشخصية حسب أولوياتها

على المرء أن يفهم أن هناك واقعاً واحداً حقيقياً ذا طبيعة موضوعية وأخرى ذاتية وواقعاً آخر زائفاً يُكيَّف وفقاً للتوقعات الخيالية عند الفرد. ونحن، دون ريب، معتادون تماماً على العيش وفقاً للنسخة الفردية للعالم، النسخة التي تولد من عمليتنا المتاهية، وخيالاتنا، أحلامنا الشخصية حتى أنه لا يمكن أن نشك بوجود واقع مادي غير شخصي وأكثر عمقاً يولد من التفاعل النشيط بين الإنسان والطبيعة. أما الواقع الزائف الذي نعتبره واقعاً حقيقياً فيولد ضمن حدود العقل، هذه الحدود التي سترافق الانخفاض الكبير لنمو وعينا، ذلك لأننا فعلاً غير كاملين.

وينبع مانواجهه في حياتنا من كرب، وألم، ومعاناة من حقيقة كوننا “أناساً مزيفين”، أي أننا أناس لا يمكن لوسيلة إدراكهم أن تفرق بين الخيال والواقع، أو الأحلام واليقظة، ولهذا فإننا كثيراً جداً ماننتهك قوانين الطبيعة أو نخالفها ونتعرض لقاء ذلك لعقاب مكافئ.

 

إن معظم الاهتمامات الملحة للجنس البشري لاتعتمد على عوامل خارجة عن سيطرته، لأنها، لو كانت كذلك، لاستتبعت مشكلات تشوش الملكات العليا للعقل وتؤثر تقريباً على كامل سكان العالم. وتنشأ هذه المشكلات من فقدان الوعي البشري الذي يمكن تطويره بالجهد الشخصي. والافتقار إلى هذه القابلية الثمينة هو السبب في معظم الآلام والعيوب التي تبتلي العالم.
يرتكب الناس خطأ جسيماً في بحثهم عن النجاح وحصر نوعية الحياة بالتركيز، بشكل تام تقريباً، على العوامل المادية، وبصورة أساسية، على التمتع بدخل يتناسب مع التطلعات العادية، وهكذا ينتهكون التفاوت الطبيعي ويتجاهلون حرية الفرد في اختيار أهدافه الخاصة. وهناك، فيما يبدو، محاولة لزيادة دخل الناس ليس بقصد إنساني لإشباع حاجاتهم الأساسية، ولكن، بالدرجة الأولى، لتحويلهم إلى مستهلكين أفضل بهدف تمكين النظام الرأسمالي من تحقيق أقصى ربح.
لقد تعلمنا أن نرى فقط جزءاً صغيراً من الواقع، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى التضامن والتفاهم بين الناس، لأن كل واحد يدافع عن جزء ضئيل جداً من الحقيقة التي كانت قد غُرِسَت في دماغه، مما يجعل من غير الممكن التعبير عن المستوى العالي للمشهد الذي يرافق امتلاك واقع أوسع وأكثر عمقاً. وهذا المستوى العالي للمشهد ضروري إذا أردنا أن يكون لدينا عالم موحد ينطوي على قيم عالية. إن الحرية الوحيدة الحقيقية هي أن يسمو الفرد بنفسه فوق برمجته العقلية، وأن يتفوق عليها لجعل المعلومات التي دخلت إلى عصبوناته تعبر إلى البوتقة المُمَيِّزَةِ للوعي الأعلى اليقظ، وبهذا يستطيع بصورة طبيعية أن “يختار وفقاً لما يمليه الضمير”، أي، بفضل الصفاء الذي ينبثق من محاكمته الداخلية العليا.
هذا هو الواجب الأخلاقي الأكثر أهمية للإنسان؛ إنها الوصفة الوحيدة الصحيحة للتطور الداخلي، والارتقاء الإنساني، والعدالة الاجتماعية الحقيقية. تعالوا نفتح أعيننا: هناك عدالة اجتماعية، وما علينا سوى أن نفهمها، أن نجعلها عملية. ويكمن هذا في فرصة النمو الروحي للفرد، الذي هو مصدر كل خير وقيمة. ولكن هذا لن ينجح في الممارسة، لأن هناك مؤامرة صمت لإخفاء هذا الاختيار أو التشكيك فيه لإبقاء الجنس البشري عبداً للجهل والخرافة. فقد تم غسل أدمغة الناس إلى المدى الذي يريدون معه أن يعيشوا في حدود الاستهلاكية واللذة، وهذا لا يترك لهم حيزاً لإدراك تناقضات حياتهم.
يقول ويل ديورانت: “قد يصل التركيز [الثروة] في المجتمعات المتقدمة إلى نقطة فيها تنافس القدرةُ العددية للكثرة الفقيرة قدرةَ الكفاؤة للأقلية الغنية؛ وعندئذ، يولّد اختلالُ التوازن وضعاً حرجاًً، جرت مواجهته عبر التاريخ على نحو مختلف، بالقوانين التي تفرض توزيعاً جديداً للثروة أو بالثورات التي توزع الفقر”.
هناك كثير من الناس يحاربون، بطريقة آلية تكرارية، التفاوت البشري عن طريق إعطاء هذا المفهوم معنى دونياً يقوم حصراً على مستوى الدخل الاقتصادي للناس، دون اعتباره نتيجة منطقية للجدارة الفردية أو عدمها، مغفلين حقيقة أن أي واحد يتمتع بعزيمة جادة في البلدان التي تتمتع باقتصاد مقبول يمكنه أن ينجح في الحصول على وضع اقتصادي يتيح له نوعية مرضية من الحياة. ولكن، لتحقيق هذه الغاية، على المرء أن يكرس جهوده بإخلاص وفعالية، وينسى ما يملكه الآخرون من فائض، ويفكر فقط بما يمكن أن يحققه نفسه.
وهناك قطاعات أخرى تحاول فرض نموذج المجتمع المادي، مجتمع غني بالسلع المادية ولكنه خال من القيم الروحية العيا. تُنتَقَد عوارض الحياة اليومية بشكل مكشوف لأن الناس لا يدركون أن أي نمو روحي، الذي هو هدف حياتنا الدنيوية، يحتاج إلى ممارسة فردية في كفاح شاق متواصل أو مواجهات مع المشكلات الملازمة للكائن الحي. وعندما نحرم الناس من هذه الفرصة، فإنما نمنعهم من التطور وننتهي إلى إضعافهم إو إلغائهم، ونحولهم إلى حمل اجتماعي ساكن، وهذا، على وجه الدقة، ما يحدث في بعض الأمكنة في العالم. إن فرط الراحة، وزيادة حماية الدولة، والإشباع المعلوماتي المتحيز يمكن أن يعوقنا عقلياً بقدر ما يتعلق الأمر بمستوى يقظتنا وسمو وعينا.
إن أداة معرفتنا عاجزة ومشوشة وظيفياً، ولكن مامن أحد يهتم فعلاً بحقيقة أن الكائن الإنساني يمكن أن يطور نفسه، لأن الناس يفضلونه مستهلكاً مدجناً. ولهذا السبب، ابتُكرَت خرافات عديدة وتم قبولها بصورة سلبية دون معارضة لمجرد كونها تتكرر باستمرار. فمن السهل إخفاء الأشياء الحقيقية جملة لأن أي شيء يتكرر كثيراً وباستمرار يتم تقبله دون مساءلة.
المساواة في الفرص موجودة فعلاً وتعتمد على التطور الداخلي لكل فرد، التطور الذي يؤدي إلى النمو من الداخل إلى الخارج. فالعملية الشاملة لأنسنة الناس تجعل القدرات الكامنة عند الفرد تظهر بفضل رؤيته الصحيحة للواقع الداخلي والخارجي، الذي يعمل كأقوى وسيلة تعليمية وارتقائية. إن التطور الأساسي للإنسان مزيف ومشلول بسبب التحريف المتعدد والمتواصل للواقع، مما يجعله يعيش في عالم خرافي غير واقعي.
الناس، كالعصافير، يبنون عش “أناهم” حول مخاوفهم، ورغباتهم، وخيالاتهم، وعندما ينجزون مهمتهم، فإنهم يطمئنون فقط في راحة مسكنهم العقلي، ويدعى هذا العش بالشخصية ويتحكم بوجود الفرد إلى يوم مماته. وإنه لعمل مؤذ جداً القيام، بصورة منهجية، بحجب الواقع لمحاربة كرب الـ”أنا” أو تفاديه، واللجوء، لهذه الغاية، إلى آليات الدفاع النفسية المعروفة.
لا يسأل المرء أبداً حول ما إذا كان هناك شيء ما بالنسبة لنا خارج الشخصية، وما ذلك الشيء، وما التأثير الذي يمارسه عليه، وكيف يحققه. والحقيقة هي أنه يوجد فيما وراء الشخصية باب يؤدي إلى الكمال الروحي، وهو أساس السعادة الحقيقية، ولكن من يعبرون هذه العتبة قليلون جداً.
وأوافق على أن الفرصة نفسها للنمو “الروحي مهيأة للجميع، وأن هذا النوع من التقدم ينسجم مع ما يصبح فعلاً نمواً سوياً لدى الفرد، إذا استطاع هذا النمو أن يحول دون حجب الواقع وتكييفه. ولا ينبغي أن نفهم عبارة النمو الروحي على أنها عملية دينية أو تعبدية، بل هي، على الأصح، نمط من السلوك الذي ينتظره الخالق من الإنسان، إنه الارتقاء الحقيقي لوعيه الخالد.
إذا كُنا نريد حقاً أن نكون ناجحين في الحياة، فعلينا أن ندرك ونقبل أن الواجب الأوّل والأكثر أهمية للفرد هو تجاه نفسه، والذي يرتبط بتطوره الارتقائي، وهو أمر سماوي بوجوب أن يكون المرء مطيعاً إذا كان يتطلع إلى أن “يتصرف على نحو سليم” في الحياة وأن يواصل سيره في الطريق الصحيح.
ومن سوء الحظ أنه عندما نتحدّث عن الجنس البشري، فإنّنا نعني حتماً نوعاً تاه، وضل طريقه في لحظة ما، ويتجه أعضاؤه نحو رعاية اللذة الحسّية كهدف، ويحملون أنفسهم على الاقتناع بالغرور الذي هو نموذجي لمن يظنون، بسبب افتقارهم إلى نقد الذات، أنّهم أفضل بكثير مما هم عليه في الواقع.
ومازال جزء ضئيل جداً من الجنس البشري يحتفظ بشيء من الصفاء العقلي، بمعنى الرؤية المخلصة لواقع أكثر اتساعاً وعمقاً، إنّها أقلية يتجاهل الحشد أو يستهين، بصورة منهجية، بأهلية مَلَكاتها، وحقوقها، وآرائها، وأية محاولة للانضمام إلى هذه الكوكبة من العقول النيِّرَة يُعاقَب عليها باللوم الاجتماعي لمجرد محاولة انفصال المرء عن التجانس العام.
ولكن، يجب على المرء أن يدرك تماماً أنّه أياً كان رأي بعض الناس غير الواعين، فإنه لا توجد طريقة أُخرى لتقديم أيّ شيء مهم فعلاً للعالم عن غير طريق التطوّر السابق أي قبل أن يكمل المرء نفسه ككائن إنساني حقيقي أصيل، يتمتع بمحاكمة داخلية، وحكمة، وتسامح، ومعيار يناسب فرداً حقق إنجازه الأعلى.
عندما يتم القبول بهذه القناعة واتخاذ القرار المناسب، فإنه ما من أحد أو شيء يمكن أن يوقف عملية الارتقاء أو يمنع النتائج من الانتشار بين أعضاء الجنس البشري.
المصدر: كتاب أُسس التعامل والأخلاق للقرن الحادي والعشرين
* جون باينس
* ترجمة: أحمد رمُو
Exit mobile version