روبرت إلسي.. التخصص في التاريخ والثقافة والمجتمع الألباني

خلال زيارتي الأخيرة إلى ألبانيا (من 26 سبتمبر إلى 3 أكتوبر 2023) حرصت على سؤال مرافقي في هذه الزيارة الصديق هاني صلاح عما إذا كانت هناك مكتبات لبيع الكتب وهل بها كتب بلغات أخرى غير الألبانية، وقد أشار الصديق إلى وجود مكتبة في قصر الثقافة الذي يقع مباشرة أمام مسجد أدهم بك.

تاريخ الطائفة البكتاشية

وخلال زيارة المكتبة لفت انتباهي كتاب عن تاريخ الطائفة البكتاشية في ألبانيا وثقافتها باللغة الإنجليزية، وبسرعة ذهبت عيني لمطالعة اسم الكاتب لأعرف إن كان مؤلفه ألبانيا أم غير ذلك. وقد وجدت أن اسم الكاتب هو “روبرت إلسي Robert Elsie” (1950 – 2017)، ولأنني كنت قد قررت التأني في شراء الكتاب خشية إلا يكون وافيا بما أحتاج إلى معرفته من معلومات، على أن أبحث عن أمازون حول بدائل وأشتري الأنسب منها.
وخلال تصفحي لموقع أمازون للكتب، أردت أن أعرف أكثر عن كاتب الكتاب الذي هممت بشرائه، ففوجئت بأن له العديد من الكتب حول التاريخ والثقافة والمجتمع الألباني، وهو الأمر الذي جعلني أبحث عنه وأعرف أكثر عنه لأكتشف أنه قد خصص الـ39 عاما الأخيرة من حياته ليتعمق في دراسة الألبانية، ويصبح كاتبا ومترجما متخصصا في الدراسات الألبانية.

استوقفتني تلك المعلومة، حيث لا أعرف مثلا مسلما ولا عربيا وحيدا يحمل هذه المهمة على كتفيه، الدراسات الألبانية، باستثناء الدكتور محمد موفاكو، واهتمامه منطقي كونه ألباني الأصل (اسمه عربيا محمد موفق الأرناؤوط).

روبرت إلسي.. التخصص في التاريخ والثقافة والمجتمع الألباني
روبرت إلسي.. التخصص في التاريخ والثقافة والمجتمع الألباني

الرحلات العلمية

أما روبرت إلسي فهو ليس بعربي ولا مسلم، وإنما ألماني الأصل ولد في فانكوفر بكندا، حيث حصل عام 1972 على دبلومة في العصور واللغات الكلاسيكية القديمة، ليواصل دراساته العليا في كل من ألمانيا وفرنسا وأيرلندا حتى يحصل على الدكتوراه في الدراسات الكلتية Celtic Studies عام 1978، والكلتية هي أصل عدد من اللغات الأوروبية منها الأيرلندية والويلزية وغيرها.
بدأت زيارات إلسي لألبانيا عام 1978، حيث كان ضمن مجموعة من الطلاب والأساتذة القادمين من جامعة بون. ثم التحق بسيمنار دولي حول اللغة والأدب والثقافة الألبانية في بريشتينا (عاصمة كوسوفو الآن)، وفي الفترة ما بين عام 1982 إلى عام 1987، عمل في وزارة الخارجية الألمانية في بون، ومن عام 2002 إلى عام 2013 في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي، ولا سيما كمترجم فوري للعديد من القضايا البارزة بما في ذلك محاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش.
رحلات إلسي العلمية واهتمامه باللهجات الألبانية جعلته على اتصال بالألبان من ألبانيا وكوسوفو واليونان والجبل الأسود وإيطاليا وكرواتيا وبلغاريا وأوكرانيا ومقدونيا وتركيا وقام بعمل عشرات التسجيلات للغة الألبانية.

الترجمات

وبصفته مترجمًا، قدم روبرت إلسي للقارئ “مجموعة مختارة من الأغاني من أشهر دورة من الشعر الملحمي الألباني”. كما قام إلسي خلال حياته بتأليف العديد من الأعمال الدراسية ولم يتبق لديه عمل كبير غير منشور لإكماله قبل وفاته.
في بداية مسيرته العلمية قدم إلسي العديد من المؤلفات والترجمات إلى اللغتين الإنجليزية والألمانية حول ومن الأدب الألباني، حيث قدم قاموس الأدب الألباني عام 1986، وتاريخ الأدب الألباني (مجلدين)، وترجم أعمالا أدبية ألبانية (شعر وقصص)، وكتب تراجم لشعراء ألبان، وتم تجميع نقده للأدب الألباني في مجلد دراسات في الأدب والثقافة الألبانية الحديثة.
كما كتب عن الوضع السياسي المتفجر في كوسوفا عام 1997: كوسوفا في قلب برميل البارود، ثم “جمع الغيوم: جذور التطهير العرقي في كوسوفا ومقدونيا، وثائق في أوائل القرن العشرين” عام 2002.
روبرت إلسي.. التخصص في التاريخ والثقافة والمجتمع الألباني

تاريخ الثقافة الشعبية

وفي السنوات التالية تحول اهتمامه إلى الثقافة الشعبية والتاريخ، والأنثروبولوجيا فقدم قاموس الدين والأساطير والثقافة الشعبية الألبانية عام 2001، كما قام بترجمة القانون العرفي الألباني، وقدم لدراسة عالم أنثروبولوجيا نرويجي عن كوسوفا، وأعد دراسة عن تغير نظام الأسرة في كوسوفا عام 2003، كما قدم دراسة قديمة أعدت عن حياة الفلاحين الألبان. كما حرر وترجم الأجزاء الألبانية من كتاب سياحتنامة لأوليا جلبي، كما قدم مخطوطة حول التاريخ الألباني كتبها كاهن فرنسي في القرن التاسع عشر، كما قدم مخطوطة لباحث مجري عن رحلاته في البلقان، كما نشر يوميات الشاعر والرسام البريطاني إدوارد لير، كما نشر مجموعة من النصوص التاريخية المبكرة عن ألبانيا.

القاموس التاريخي لألبانيا

ونظرا لقلة معرفة العالم بألبانيا وكوسوفا، فقد نشر القاموس التاريخي لألبانيا، ثم القاموس التاريخي لكوسوفا، عام 2004، كما عاد لدراسة الأدب وقدم تاريخ للأدب الألباني عام 2005، كما قدم مختارات من الملاحم الشفهية الألبانية الشمالية، كما قدم ترجمات نثرية للكتاب الألبانية الشماليين، فضلا عن أعمال أدبية أخرى في مجالات أدبية عديدة. فضلا عن ذلك فتنه التصوير الفوتوغرافي الألباني المبكر وقدم عنه ألبومين. أما كتابه عن البكتاشية الألبانية، والذي كان سبب التفاتي إليه، فهو آخر ما كتب، وقد نشر بعد وفاته في عام 2017.
هذه فقط إطلالة سريعة على بعض ما أنجزه هذا الباحث الذي عشق الألبان والألبانية أدبا وثقافة وتاريخا وامتدت أعماله لتتسع لطيف واسع مما يمكن وصفه بالدراسات الأنثروبولوجية المتنوعة والمثيرة حول ألبانيا والألبان، وهو ما لم يفعله بهذا الشمول والاتساع – حسب علمي المحدود – عربي ولا مسلم، وهو أمر يدعو للتأمل.
ومن ثم لم يكن غريبا أن يحصل على وسام الامتنان من ألبانيا، في 15 مايو 2013، والذي قلده إياه رئيس ألبانيا الأسبق بويار نيشاني، وذلك لإسهاماته كباحث لأكثر من 35 عامًا في التركيز على “ثقافة ولغة وأدب وتاريخ الألبان” وتعزيزها عالميًا إلى جانب “الصورة الإيجابية لألبانيا في العالم”.
د. مجدي سعيد
Exit mobile version