علي رشيد شعث.. وحكايات فلسطينية تقاوم النسيان

” أيتُها الغاليةُ سميحة
.. صليتُ فجرَ الإثنَيْنِ حاضرًا وقرأتُ ما تيَسَّرُ من كتابِ اللهِ الكريم، ثم انحدرتُ إلى المطارِ في الطائرةِ التي سارَتْ باسمِ اللهِ في الثامنةِ مُيَمِّمَةً شَطْرَ بيتِ المقدِس.. قلبِ الوطنِ الغالي.. وأنا أُرَدِّدُ قولَه تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ”.. أُرَدِّدُها وأنا أرْكَبُ الهواءَ وأشُقُّ الأَجْواءَ قُدُمًا نَحْوَ المسجدِ الأقصى في يومِ إسراءِ الرسولِ الكريم.. فما أسْعَدَنِي مُسْلمًا عربيًّا يُوَجِّهُهُ اللهُ وِجهَةَ الوطنِ العزيزِ ومسجدِهِ الأقصى كما وَجَّهَ من قبْلُ رسولَهُ الكريم.. وما أعظمَ حظِّي غائبًا يعودُ لوطنِه الحبيبِ في يومٍ سعيدٍ مبارك.

علي رشيد شعث.. وحكايات فلسطينية تقاوم النسيان
علي رشيد شعث.. وحكايات فلسطينية تقاوم النسيان

نعم.. ها أَنَذَا أعودُ يا سميحةُ إلى وطنِي الحبيبِ بعدَ أن غِبتُ عنهُ حِقبَةً طويلَةً تكادُ تبلغُ التِّسْعَ سنواتٍ عَصَفَتْ خِلاَلَهَا بهِ العواصفُ العاتِيَة.. نعم ها أَنَذَا أعودُ إلى وطني المُجَزَّإِ المُحَطَّمِ، الذليلِ المُثْخَنِ بالجراحِ لأراهُ حزينًا، مُنَكَّسَ الرأسِ بعدَ أن جرَّدَهُ عدوُّنا من يافا واللِدّ والرَّمْلَة وصَفَدْ وحيفا والناصرة – مَرَابِعِ الطفولةِ ومسارحِ الشباب.. فما أَشَدَّ مرارةَ عودَتِكَ يا عليّ! وما أقساها على نفسِكَ التي كثيرًا ما مَنَّيْتَهَا بيومِ النصرِ وساعةِ الخلاصِ والتحرُّر”..

على رشيد شعث رجل التعلم

هذا مقتطف من رسالة من عشرات الرسائل التي كتبها “علي رشيد شعث” أحد رجالات التعليم ثم العمل المصرفي الفلسطيني إلى زوجته “سميحة” في 27 مارس من عام 1955 متحدثا فيها عن أول زيارة له لوطنه بعد ثماني سنوات من الغربة القسرية عنه واصفا فيها مشاعره ومشاهداته ولقاءاته وانطباعاته عن تلك الزيارة.. فمن هو علي رشيد شعث، وما هي قصته وقصة رسائله العائلية؟

مولد علي رشيد شعث

ولد علي رشيد شعث عام 1908 لأسرة فلسطينية من عموم أهل غزة، لكنها ما لبثت أن انتقلت إلى القدس بسبب المعرك التي نشبت في غزة بين القوات البريطانية وقوات الدولة العثمانية عام 1915 في إطار الحرب العالمية الأولى، وفي القدس أنهى “علي” الدراسة الثانوية عام 1925 في مدرسة الكاردينال فراري (أكاديمية تراسنطة فيما بعد)، ولتفوقه في الكيمياء تأهل للحصول على منحة للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، والتي كانت تشترط أن يقوم أحد بضمان أن الطالب سيعود للعمل في فلسطين، وهو ما قام به معلمه في المدرسة، ومن ثم أنهى “علي” دراسة العلوم في الجامعة عام 1929، حيث عمل بالتعليم على مدى 18 عاما، حيث عمل كمعلم، ثم مدير لمدرسة عكا، ثم مديرا لمدرسة صفد، ثم مديرا لمدرسة الخليل، ثم مديرا لمدرسة العامرية، والتي استقال من إدارتها عام 1947 احتجاجا على فصل سلطات الاحتلال لبعض طلابه ومعاقبة عدد من المعلمين نتيجة مشاركاتهم في التظاهر ضد الاحتلال، وهو القرار الذي حاول “علي” أن يمنعه، ولما فشل، قدم استقالته احتجاجا عليه، وذلك على الرغم من أن العمل التربوي والتعليمي كان واستمر الأقرب إلى قلبه.

وفي نفس عام استقالته، عرض عليه رجل الأعمال الفلسطيني عبد الحميد شومان أن يقوم بتأسيس أول فرع للبنك العربي في الإسكندرية، وهو الذي أسسه شومان في فلسطين عام 1930، ومن ثم سافر “علي” وأسرته إلى الإسكندرية حيث قام بتأسيس وإدارة أول فرع للبنك العربي خارج فلسطين، ومن هناك بدأ الفصل الثاني من حياته في العمل المصرفي والذي استمر حتى وفاته في سبتمبر من عام 1967 حزنا على الهزيمة العربية في حرب يونيو 1967.

قضى “علي” شطرا من حياته المصرفية في الأردن في الخمسينيات من القرن العشرين، وقد استمر في العمل بالبنك العربي إلى أن انتقل في أوائل الستينيات للعمل في بنك الرياض بالسعودية، ثم عاد إلى الإسكندرية في مصر حيث توفي.
أنجب علي 5 من الأبناء، أكبرهم نبيل (الدكتور نبيل شعث وزير خارجية السلطة الفلسطينية في فترة الرئيس الراحل ياسر عرفات)، وميسون وهي خريجة آداب الإسكندرية قسم اللغة الإنجليزية، وقد شاركت في النضال الاجتماعي للمرأة الفلسطينية من خلال الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، ونهى ونديم وزينب – أصغر أبناؤه التي قامت بالغناء والتلحين والعزف على الجيتار في شبابها دعما للقضية الفلسطينية.

كان “علي رشيد شعث” قارئا نهما منذ صغره، لكنه لم يترك من أعمال مكتوبة ومنشورة – فيما نعلم – سوى كتاب صغير في الثقافة العلمية صادر عن المكتبة العصرية في يافا، في إطار سلسلة “الثقافة العامة” عام 1947 وعنوانه “من البنسلين إلى القنبلة الذرية”، لكنه ترك تراثا ضخما من الرسائل العائلية التي أرسلها إلى والدته، ثم إلى زوجته، وأبنائه في كل مرحلة من مراحل اغترابه عنهم، وهي الرسائل التي تميزت بالأسلوب الأدبي الرشيق، والوصف الإثنوجرافي العميق والدقيق، والحس الفكاهي والتذوق الأدبي والفني حيث كان من محبي الموسيقى، ومن متابعي السينما، وكما تصف حفيدته “سمر دويدار” فإن رسائله كنز معرفي ليس فقط عن وطنه الحبيب فلسطين، ولكن عن البلدان التي زارها وعاش فيها وهي الأردن والسعودية فضلا عن إيطاليا والولايات المتحدة والتي زار كلا منها في إطار عمله المصرفي. كما تميزت رسائله بأسلوبها السردي القصصي الممتع الذي استخدم فيها أساليب الذاكرة الرجعية التي كثيرا ما تستخدم في الأدب والسينما. وكما تؤكد “سمر” فإن شيئان بقيا دائما حاضران في رسائل جدها، الأول ذكرياته عن فلسطين وحنينه إليها، والثاني حنينه إلى العمل التربوية والتعليمي.

الزواج في مصر

هذه الرسائل – أو جزء منها على الأقل، وهو الموجه لزوجته وابنته ميسون – كان الكنز الذي اكتشفته الأستاذة سمر دويدار عام 2019، التي عملت فترة في مجال الإعلام وإدارة المشروعات التنموية. وتعود قصة اكتشاف تلك الرسائل إلى عام 2018، حينما كانت سمر تحضر تدريبا على الكتابة الإبداعية، وأرادت أن تكتب عملا أدبيا عن حضور فلسطين في وجدان الجيل الثالث من الزيجات المختلطة، ومن ثم بدأت في التواصل مع سيدات فلسطينيات تزوجن من غير الفلسطينيين – مثل والدتها ميسون – التي تزوجت من مصري وعاشت في القاهرة، ومن أجل روايتها تلك أجرت سمر العديد من المقابلات في عدة بلدان عربية وأجنبية، إلى أن دفعت لها أمها برسالة من رسائل جدها، ثم بصندوق كامل يحوي عددا من الأوراق يصل عددها إلى 400 رسالة ومستند وبرقية، ومنذ حصولها على هذا الكنز في سبتمبر من عام 2019 انقلبت حياتها، وتمحورت حول تلك الرسائل، فقرأتها رسالة رسالة، ووثيقة وثيقة، وعملت مع صديقة لها على تصنيفهم وتوثيقهم وتصويرهم، وأرشفتهم. ومن ثم تحركت ببعض منهم في معارض في بريطانيا والولايات المتحدة ومصر.

موقع حكايات فلسطينية

تحلم “سمر” بأن تستطيع إصدار كتاب عن تلك الرسائل، كما تحلم بأن تستطيع إنتاج أفلام وثائقية عما بها من كنوز معرفية وحكايات وطنية، لكنها ارتأت أن تخرج أولا من انغماسها في تلك الرسائل العائلية والتي تؤرخ لفلسطين وللبلاد التي زارها جدها إلى أفق أرحب يتيح للأجيال المتعاقبة من العائلات الفلسطينية أينما كانت أن تجد أرشيفاتها متاحة، تؤرخ للوطن، وتورث القضية للأجيال الجديدة منه، وتكون أداة في النضال من خلال حفظ الذاكرة، ومن خلال أنشطة “الدبلوماسية الشعبية” دفاعا عن الحق الفلسطيني، ومن ثم أسست بمساعدة عدد من شباب المتطوعين موقع “حكايات فلسطينية“، الذي تم تدشينه رسميا يوم 18 يونيو 2023، والذي يقدم متحفا وطنيا لأرشيفات الرسائل والصور والوثائق في “ذاكرة تقاوم النسيان”، والذي يقول في تعريفه لنفسه “كل حكايات الأجداد التي وصلتنا فقدت جزءا منها في كل مرة تُليت فيها. لكننا هنا والآن وبأدوات عصرنا بإمكاننا التغلب على هذه العقبة وإنقاذ ذاكرتنا، بأن نتشارك لنجمع قطع البازل من حكايات كل الأجداد لنرسم صورة كبيرة لذاكرة تقاوم النسيان”.

حكايات فلسطينية” إذا مشروع عصري يقدم سردية وطنية موثقة لوطن سيعود إلى أهله مهما طال الزمن، طالما بقي حيا في وجدان أهله، بل وفي وجدان الأمة جمعاء.

د. مجدي سعيد

Exit mobile version