قصة الطائرة.. الاختراع العظيم الذي استغرق ألف عام

في هذه اللحظات أثناء قراءتك لهذا المقال عادة ما يكون نصف مليون من المسافرين يحلقون في الأجواء بسرعات مختلفة بين رحلات طويلة وقصيرة ليصلوا إلى مئات الوجهات حول العالم، وإذا قدِّر لنا أن نخبر أسلافنا بهذا فلن يصدقونا، ولكننا نحن الجيل الذي تمكن من التغلب على الجاذبية، واستطاع أن يحلق في الفضاء لفترات طويلة دون توقف.

عباس بن فرناس.. حلم الطيران الذي لم يتحقق

قبل 11 قرنا من الآن لم يكن يحلق في الفضاء سوى الطيور أو عالِم متميز سابق لعصره، ففي عام 860 للميلاد صعد الأندلسي عباس بن فرناس إلى قمة جبل، وكان قد غطى جسده بالريش وصنع لنفسه جناحين، ثم قفز قفزة هائلة إلى المجهول، لقد كان عنده من الشجاعة ما دفعه إلى هذه القفزة، ولكنه ارتطم بالأرض بسرعة كبيرة وكُسر ظهره، ونتيجة لذلك فإنه لم يعد للطيران، ولكنه خلَّف شغفا للأجيال من بعده.

يعتمد الطيران الحديث بكل أشكاله على التحكم بالهواء الذي حولنا، وقد يبدو الهواء بلا قوة ولكنه هو الذي يحملنا، ويمثل علم “ديناميكا الموائع” الركيزة الأساسية للاستفادة من عنصر الهواء، ويُعتقد أن الصينيين هم أول من صنع نموذجا أوليا للطائرة الورقية، وكان مكونا من الخيزران والحرير، وقد شكلت الطائرة الورقية أول تحدّ لتحليق الأشياء والتغلب على الجاذبية، واستخدمت في حمل الرسائل والأسلحة والأشخاص أحيانا.

كانت الطائرات الورقية بداية جيدة، ولكنها ما زالت مربوطة بالحبال، لقد كان مطلوبا من الإنسان أن يسيطر على تلك القوى الغامضة في الهواء، بحيث تطير طائراته بالقوة الذاتية، وقد تصدى لهذه الدراسة عبقري متعدد المواهب من فلورنسا في بدايات القرن الـ16، إنه الفنان الشهير “ليوناردو دافنشي”.

“ليوناردو دافنشي”.. سر أجنحة الطيور الغامض

ينتمي “ليوناردو دافنشي” إلى أسرة متواضعة النسب، ولكن جرى تصنيفه كأعظم عبقري على مر الزمان، فقد كان يتمعن بأدق التفاصيل في الأشياء، ويهتم بكيفية حركة الحيوانات والبشر ويقوم بتشريح الأجسام من أجل التعرف على ميكانيكية الحركة فيها، وكان يبحث في أسرار تحليق الطيور ودور الأجنحة في ذلك، وصولا إلى تحقيق حلم البشر بالطيران.

لكن “دافنشي” أدرك أن تركيب جناحين على الأذرع لا يجدي، لأن عضلات الإنسان ليس لها القدرة على إحداث القوة اللازمة للطيران، فضلا عن البقاء في الأجواء، وهنا توصل إلى فكرة جريئة، وهي تركيب جناحين على آلة منفصلة، وبدورها ترفرف بهذه الأجنحة كما تفعل الطيور، وقد صمّم بالفعل عشرة نماذج ولكنها فشلت في الطيران، فما السر الذي تملكه أجنحة الطيور ولم يتوصل إليه “دافنشي”؟

على الرغم من الرسومات المتقنة والحسابات الدقيقة التي أجراها “دافنشي” على أجنحة الطيور، فإن البشر لم يتمكنوا من إدراك السر في قدرتها على الطيران إلا بعد التطور الهائل في تقنيات التصوير، فلم تكن رفرفة الأجنحة وحدها هي المسؤولة عن الطيران، بل إن الأمر أعقد من ذلك بكثير.

“جورج كيلي”.. أول طائرة تتحرر من القيود

عجز “دافنشي” رغم ذكائه وتجاربه عن الوصول إلى سر طيران الطيور، لكنّ أرستقراطيا إنجليزيا يدعى “جورج كيلي” كان يراوده كذلك حلم الطيران، حتى نال لقب “دافنشي” الإنجليزي، وكان “كيلي” رجلا موسوعيا متعدد الاهتمامات، وأثناء زيارته لشاطئ “يوركشاير” شمال شرقي إنجلترا كان يراقب النوارس، فشدّ انتباهه كيف تحلق فوق الشاطئ بأجنحة ساكنة، وتوصل إلى أن الخفقان وحده ليس بالضرورة أن يكون المسؤول عن الطيران والتحليق.

عاد إلى بيته وصنع تجربة أثبت من خلالها أن الأجنحة تميل بزاوية ضئيلة -حوالي 6 درجات-، ولكن هذه الزاوية هي التي تحدث الفرق، وتخلق قوة رفع للطائر. استمرت تجارب “كيلي” أكثر من 50 عاما، وقام بعدها -وتحديدا في 1894- بصناعة نموذج لطائرته التي حلّق بها صبي عمره 10 سنوات، وكان أول إنسان يحلق بطائرة غير مقيدة.

غيَّرت تلك التجربة كل شيء، وصنع “كيلي” أول طائرة شراعية، وكتب في مذكراته عن هذا الاختراع العظيم، وأنه سوف يفتح للبشرية عهدا جديدا من الرفاهية والراحة، وبشّر بأن السفر بطائرته سوف يكون أسهل وأسرع من السفر بالباخرة أو القطار، وسوف تبلغ سرعة الطائرات قريبا بين 30 إلى 150 كم/ساعة، وهي الفكرة التي وصفها المسافرون على الخيول والبغال بالفكرة السخيفة.

“بينو” و”ليليانتال”.. آخر المحاولات الفاشلة في عالم الطيران

كان المنطاد في بداية القرن الـ19 هو الاختراع المنافس للطائرة، فقد انتشرت صناعته بكثرة واستخدم في نقل الأشخاص والبريد، وبعدها صمّم الفرنسي “ألفونس بينو” طائرة مروحية مصغرة يشغِّلها شريط مطاطي ملتف حول محور، وحلَّقت مسافة 60 مترا، ثم صمم طائرة بالحجم الطبيعي وركّب لها مروحتين وطيارا آليا، لقد كان اختراعا سبق عصره بسنوات، لكنه لم يستطع إقناع المستثمرين، فانتحر.

في تلك الأثناء كان هنالك هاوٍ ألماني اسمه “أوتو ليليانتال” يجرب حظه بنموذج مستوحى من طائر اللقلق، بعد أن قام بدراسة معمقة لأجنحة ذلك الطائر، وقد نجحت تجربته نجاحا باهرا ولكنها كشفت عيبا خطيرا هو عدم التحكم والتوجيه، فقد احتاج للتحكم بميلان جسمه من الأمام والخلف وعن الشمال حتى يجبر طائرته على الاتجاه الصحيح، وانتهت محاولاته بكسر عنقه في العام 1896.

في الحقبة ذاتها كان الشقيقان “ويلبور” و”أوربل رايت” يعملان في متجرهما لصناعة وبيع الدراجات الهوائية، وكان لديهما شغف بالطيران، وقد درسا جميع المحاولات التي قام بها “كيلي” و”بينو” و”ليليانتال”، وأتاحت لهما طبيعة عملهما اختبار نماذج مختلفة من الأجنحة التي سوف يستخدمانها في نموذجهما المستقبلي.

الأخوان “رايت”.. أول تحليق ذاتي في التاريخ

في العام 1899 أثمرت جهود الأخوين “رايت” في حل مشكلات التوجيه والارتفاع، وأمكن لهما تصميم نموذج ذاتي التحكم كليا، وكان ذلك بتغيير زاوية انحناء الجناحين للدوران في الجو، وتوجيه صفيحة الذيل للاتجاه يمينا ويسارا، وقد وضعا صفيحة في مقدمة الطائرة من أجل الارتفاع والانخفاض.

قام الأخوان بتجربة طائرتهما في 1902 وكان نجاحهما باهرا، وبلغت بهما الشجاعة أن يكونا هما طيارَي التجارب، لكن هذا النموذج الذي حلَّ مشكلة التحكم ما زال مجرد طائرة شراعية، واستغرق الأمر عاما آخر ليتمكنا من تصنيع محرك خفيف يناسب تشغيل وإقلاع الطائرة دون الحاجة للرياح، وفي 17 ديسمبر/كانون أول 1903 حلقت أول طائرة بمحرك في سماء “كيتي تاون”.

في عام 1908 باع الأخوان “رايت” أول طائرة من إنتاجهما لوزارة الدفاع الأميركية بمبلغ 25 ألف دولار، وهو ما يعادل 700 ألف دولار اليوم، وفي العقد الثاني من القرن العشرين شهدت صناعة الطائرات تطورا مذهلا، خصوصا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وصارت أسرع وأقوى، وظهرت تحديات ومتطلبات جديدة سوف يكون حلها من ألعاب الأطفال أيضا.

“إلمر سبيري”.. صناعة الأفق الافتراضي الذي أنقذ الطيارين

في عشرينيات القرن الماضي كان الطيارون يحلقون في أجواء من الضباب الكثيف أو الظلام الدامس، وكان الخطر يداهمهم كلما غاب عن أبصارهم الأفق، وقد كان العمر الافتراضي للطيار آنذاك لا يتجاوز ثلاث سنين، فكان لا بد من حل لهذه المعضلة، وجاء الحل هذه المرة من البحر، وتطلّب الأمر من البشر أن يستبدلوا السفن الخشبية بالمصنوعة من الحديد، حتى يهتدوا لحل يناسب البحر والجو.

في عام 1838 قرر المهندس “برونيل” بناء السفينة “غريت بريتين” من الحديد، وقد أبحرت السفينة بعد 7 سنوات، وكانت أكبر سفينة آنذاك.. لقد انتهى عصر السفن الخشبية، ولكنه دشّن معها مشكلة جديدة، فقد كانت السفن الخشبية سابقا تستعين بالبوصلة المغناطيسية التي كانت تشير إلى الشمال دائما، ولكن مع هذه الكتلة المعدنية الهائلة فما عادت البوصلة تفيد شيئا، وضلت السفينة طريقها.

جاء الحل عن طريق رجل الأعمال والمخترع “إلمر سبيري”، وهو الذي طوّر مصابيح المنارات في البحار، لتصبح أقوى من الإنارة السابقة بستة أضعاف، وقرر هذه المرة حل مشكلة البوصلة، وجاء الحل عن طريق لعبة المدوار التي كان يحبها، وهو لعبة معدنية تدور بسرعة كبيرة ويتجه قطبها إلى اتجاه واحد برغم القوى الأخرى التي قد تؤثر على دورانها.

وهكذا استخدم المدوار (الجايروسكوب) في السفينة بعد وضعه على محورين وجعله في حالة دوران مستمر، فقد كان قطبه يشير إلى الشمال دائما، ثم جاء ابنه “لورانس” ليطوّر استخدام المدوار حتى يدل على مستوى الأفق، وصار اسم الجهاز “الأفق الاصطناعي”، وقد قام الطيار “دوليتل” بالتطوع لتجربة هذا الجهاز عام 1929، وغطى قمرة القيادة بالكامل وطار لمدة طويلة، ولحسن حظه نجحت التجربة.

بداية الطيران التجاري.. من الشرق إلى الغرب في 48 ساعة

بعد هذا التقدم الهائل في مجال الطيران، جاء العام 1929 ليدشن عصر الطيران التجاري، وأعلنت إحدى الشركات عن رحلة من نيويورك إلى لوس أنجلوس خلال 48 ساعة فقط، وكانت تلك الرحلة تمثل قمة البذخ، حيث كانت كلفتها 5000 دولار للاتجاه الواحد، وكانت تتكون من مراحل متعددة، باستخدام القطار والطائرات من نوع “فورد تراي موتور” مع هبوط متكرر للتزود بالوقود.

كانت تلك الرحلات على ارتفاع 5000 قدم فقط، مع ما يرافق ذلك من تقلبات في الطقس، وأحوال جوية غير مستقرة. وفي سبتمبر/أيلول من ذلك العام، تحطمت إحدى هذه الطائرات على جبل “تيلار” وقتل جميع من كان على متنها، لتكون بذلك أول كارثة جوية تجارية، وهنا ازدادت الحاجة إلى اختراع يجعل الطيران أكثر أمانا وسرعة.

كان الحل يكمن في الطيران فوق الغلاف الجوي، وذلك لتجاوز الظروف الجوية القاسية، ولكن هذا الحل يحمل مخاطر أخرى تتمثل في قدرة الإنسان على تحمل تبعات انخفاض الضغط الجوي، وقد اكتشفت هذه المخاطر عندما قرر “هوتورن غراي” الطيران إلى ارتفاع 45 ألف قدم باستخدام بالون من الهيليوم، ولكنهم وجدوه جثة هامدة عندما هبط منطاده في اليوم التالي.

خوذة الفولاذ.. آخر حركة في معركة الضغط الجوي

اليوم في حجرة القيادة الافتراضية لطائرة “يو2” (U2)، يقوم العلماء بتجارب على أداء الطيارين في ظروف انخفاض الضغط الجوي، وقد أثبتت التجارب أن الطيارين يعانون من انخفاض حاد في قدراتهم المنطقية والعقلية، ويصبحون أقل قدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة في هذه الأجواء، هذا قبل تدهور قدراتهم الجسدية.

في ثلاثينيات القرن الماضي كان “وايلي بوست” -وهو طيار محب للسرعة والارتفاعات العالية- يحاول التغلب على الارتفاعات العالية، وذلك باستخدام خوذة فولاذية تحمي رأسه من انخفاض الضغط، وزيٍّ مستوحى من أزياء الغطس يحتفظ بالهواء في داخله، وقد وصل في عام 1934 إلى سرعة 340 ميل/ساعة، وتجاوز ارتفاع 30 ألف قدم. وأخيرا في 1938 أصبحت قمرة القيادة بالكامل معادَلة الضغط.

لكن المراوح الاعتيادية والمحركات التي تستخدم المكابس لم تعد تجدي نفعا كلما زاد الارتفاع، ولذا دعت الحاجة إلى لعبة أطفال أخرى من أجل اكتشاف حل للتغلب على هذه المشكلة.

عصر المحرك النفّاث.. قفزة هائلة إلى عالم الفضاء الآمن

كان “فرانك واتل” يعشق الطيران منذ صغره، وقد أثارت دمية طائرة أهداها له والده شغفه بالطيران، فأصبح طيارا وعمره 16 عاما، وكتب ورقة علمية متميزة بثّ فيها تصوراته لطيران المستقبل وعمره 21 سنة.

ركّز “واتل” اهتمامه على المحرك، وقادته عبقريته إلى وضع تصور عن المحرك النفاث، وتقوم فكرته على استمرارية احتراق الوقود بشكل مكثف في غرف احتراق، والاستفادة من الغاز العادم الناتج عن الاحتراق من خلال تمريره من فتحة ضيقة في مؤخرة المحرك، بحيث يعطي دفعا مضادا كبيرا للطائرة، وتقوم المروحة الهائلة في مقدمة المحرك بتفريغ الهواء أمام الطائرة من أجل زيادة اندفاعها.

بعد تسع سنوات من العمل المتواصل والتطوير، وبعد تجارب كارثية فاشلة أنتج “واتل” أول محرك نفاث عامل، وانطلقت أول رحلة نفاثة في 15 أيار/مايو 1941، وأصبح الناس يتمتعون برحلة سريعة وآمنة، مقابل سعر معقول بفضل اختراع واتل. وانتشرت المحركات النفاثة في العالم بشكل هائل، ليس لسرعتها وطاقتها العالية فحسب، ولكن لخفة وزنها مقارنة بما تنتجه من طاقة.

اليوم وبعد هذا التقدم الهائل في مجال الطيران يعكف العلماء على دراسة هياكل جديدة للطائرات، بينما تقدم بعض الشركات حلولا لطائرات صغيرة تقوم مقام سيارات الأجرة، وتدرس شركات أخرى إمكانية تغيير وقود الطائرات لتحل البطاريات الكهربائية مكان الوقود العادي، وهناك شركة بريطانية تقوم بتطوير “الطائرة الصاروخ” التي تتحول إلى نظام صاروخي عندما تخترق الغلاف الجوي.

وبتصنيع نماذج صغيرة من المحرك النفاث يمكن تركيبها على الذراعين، أصبح بإمكان الشخص العادي أن يطير في الهواء، وبهذا تحققت رغبة عباس بن فرناس في الطيران بعد مرور أكثر من ألف عام على محاولته الرائعة. ويبقى العالم اليوم مدينا لهؤلاء العمالقة الذين ضحوا بأنفسهم من أمثال عباس و”دافنشي” و”كيلي” و”ليليانتال” والأخوين “رايت” و”واتل” في سبيل ما نحن عليه اليوم من الراحة والأمان.

المصدر: الجزيرة الوثائقية

Exit mobile version