مستقبلك يحمل مزيدا من الأمل

كلُّ ما من حولنا يبحث عن مستقبله.. لا يريد أن يقف مكتوف اليدين إزاء حاضره مكبّلاً بماضيه..
فالأرض الجرداء تكظم صبرها حتّى ينزل المطر عليها.. فإذا سالت وديانها بالأمطار واهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج.
إنّه مستقبلها الأخضرُ الرّيّان السعيد.
واللّيلُ مهما بدا طويلاً ثقيلاً مدثراً بعباءته السميكة السوداء، فإنّ الكون يمنِّي النفس بنهار رفرفٍ مشرقٍ عذبٍ نديّ جميل تتفتّح فيه أسارير الحياة والكائنات..
فالغدُ المشرقُ مستقبل.

والخريف الذي تتعرّى أشجاره من خضرتها اليانعة، وثمارها الشهيّة، وأزهارها البهيّة، يبدو للناظر كهياكلٍ عظيمة ناشزة توحي بالموت والإنتهاء، لكنّ الحدائق والرِّياض والمزارع والبساتين تؤمِّل نفسها بمستقبلٍ ربيعيٍّ زاهرٍ مثمر تعود فيه بسمة الحياة إلى كلّ هذا الموات.
والفلّاح الذي يمضي أوقاته تحت الشمس اللّاهبة وتحت سياط البرد القارس، إنّما يدفعه مستقبلُ موسمه العامر بالغلال، لتحمّل هذا العذاب المستعذب..
فالموسم مستقبله الضاحك الغنيّ العَطِر..
والأُمّ التي تنتظر تسعة أشهر بلياليها ونهاراتها وحملها الثقيل الذي يوهن بدنها، وما تعانيه من مصاعب، يتجمّع مستقبلها كلّه في رؤية وليدها المنتظر النور.
إنّها تولد بولادته.. ولولا إيمانها بالمستقبل المحفوف بالأمل لما عانت متاعب الحمل ولا كابدت آلام المخاض.
حتّى الدجاجة التي ترقد على بيضها أيّاماً معدودات يحدوها الأملُ في أن ترى صيصانها بألوانها الزاهية يدرجن من حولها مزقزقات..
وأنت تقضي عاماً كاملاً على مقاعد الدراسة لتتقدّم خطوة نحو المستقبل، وفي كلّ عام دراسيّ تتّجه صوب مستقبلك العلمي والعملي شوطاً آخر..
هذا هو الكون تطلّع إلى المستقبل كلّه، يغمره التفاؤل أنّ المؤمّل – وإن كان غيباً – لكنّه سيأتي حاملاً بين طيّاته السعد والرحمة والبركة، ولذا قيل: “تفاءلوا بالخير تجدوه”.
فكم من مريضٍ نام ليلته هو يمنِّي النفس بالشفاء.. وكم من صاحب همّ بات وهو يرجو أن يطلع الصباح بما يفرِّج همّه.. وكم من مشكلة عويصة داخ فيها صاحبها لكنّه لم يعدم الأمل في إيجاد الحلّ المناسب لها.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ * وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أمرِهِ يُسْراً) (الطلاق/ 2-4).
وبإطمئنان نقول: لولا التفكير بالمستقبل والتطلّع نحوه لتوقّفت عجلة الحياة عن الدوران، ولجفّت ينابيع الحركة في الكائنات، ولتحوّل الكون إلى مقبرة واسعة.
بينما عيسى (ع) جالسٌ وشيخٌ يعملُ بمسحاة يثير الأرض، قال (ع): “اللّهمّ انزع منه الأمل”، فوضع الشّيخ المسحاة، فلبث ساعة، فقال عيسى (ع): “اللّهمّ أردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل”.
أي أنّ (المحرِّك) و(المحرِّض) على العمل هو (الأمل)، ولذلك قال رسول الله (ص): “الأمل رحمة لأمّتي، ولولا الأمل ما وضعت والدة ولدها، ولا غرس غارسٌ شجراً”.
أي لم يفكِّرا في المستقبل.. لا في مستقبل الولد الرّضيع، ولا في مستقبل الشجرة الرضيعة التي لاتزال شتلة فتيّة.
– صفحات كتابنا ثلاث:
إنّ حياتنا هي صفحات ثلاث: ماضٍ وحاضر ومستقبل.
فأمّا الماضي، فصفحة انطوت بخيرها وشرّها ولم يبق منها إلّا تبعاتُها وذكرياتها الحلوة والمرّة.
وأمّا الحاضر، فهو صفحة الأيّام التي نحن فيها بما يحيطها من يسر وعسر وآلام وأفراح وأعمال ومسؤوليّات وتوفيق وفشل.
وأمّا المستقبل، فصفحةُ أيّامنا الآتية بما تحمل من آمال وتطلّعات. وفي الغالب ينظر كلٌّ منّا إلى هذه الأيّام نظرة أمل وتفاؤل واستبشار، فبدون ذلك تصبح الحياة زنزانة ضيِّقة لا نطيق العيش فيها:
أُعلِّلُ النّفسَ بالآمالِ أرقبُها **** ما أضيقَ العيش لولا فسحةُ الأمل
فالماضي كان ذات يوم حاضراً، والحاضر بعد مدّةٍ سيكون ماضياً، وسيصبحُ المستقبلُ – ذات يوم – حاضراً، فالمسافةُ بيننا وبين غدنا ليست بعيدة، وبقدر ما يكون الماضي والحاضر مشرقين تكون صورة المستقبل، لكنّ ذلك – كما سنرى – ليس شرطاً ضرورياً، فقد تحدث في حياتنا نقلات نوعية نكسر فيها موانع السير ونزيح عقبات الطريق لنحلِّق نحو المستقبل بأجنحة الأمل!
وقد تأتي الرِّياح بما لا تشتهي السُّفن، فربّما جاء الغد وقد تراجعنا، وربّما جاء وقد واجهتنا ضاغطة غيّرت الكثير من برامجنا ومشاريعنا على غير رغبة أو إرادة منّا، فالغد غيب، ويقول الشاعر:
وقد أعيا الفلاسفة الأحرار جلُّهُم **** يما يُخبِّئ لهم بين دفّتيه غَدُ
ولذلك فإن توطين النفس، والاستعداد لأسوأ الاحتمالات ممّا يُخفِّف من وقع الصّدمات.. أنت تشتري بطاقة يانصيب، وفي البداية لا تحلم إلّا بالجائزة الأولى، وقد تُقنع نفسك في الأيّام التالية بالثانية أو الثالثة، لكن حلم الأولى هو الذي يراودك ويداعب أجفانك، فإذا لم تكن قد وضعت في أنّك لن تربح شيئاً وربّما ربحت جائزة بسيطة، فقد تكون صدمتك النفسية أكبر وأنت تمرّ بقطار عينيك سريعاً على نشرة الكشف بالجوائز أو البطاقات الرابحة.
– الاهتمام بالمستقبل:
لو نظرت حولك لرأيت الناس أحد ثلاثة:
فهناك مَن لا يولي مستقبله اهتماماً، فله اللحظة التي هو فيها، ولا يهمّه ما يأتي به الزمان من خير ومن شرّ، فهو كالأسير المستسلم للأمر الواقع لا يريد أن يتجاوزه ويتعدّاه.
وقد تكون اللّامبالاة بالمستقبل لهواً وانشغالاً عمّا يصرفه عن الحاضر الراهن الذي هو فيه، متمثِّلاً بقول الحكيم الذي قال: (ما مضى فات، والمؤمّل غيبٌ، ولك الساعة التي أنت فيها).
وهناك مَن يعيش حاضره، لكنّه يستغرق كثيراً في ماضيه بحيث تعيقه تجاربه الفاشلة في الماضي عن إعادة الكرّة ثانية، أو مواجهة التجارب والتحدِّيات الجديدة. وربّما كان قد حقّق بعض الإنجازات فيما مضى فرضيَ من دهره بما جاد عليه، مكتفياً بما حقّقه في الماضي أو الحاضر فلا يتطلّع إلى المزيد من الإبداع والإنتاج والتطوّر، وكأنّ ما وصل إليه هو نهاية المطاف وغاية الجهود وبلغة القاصد ومنية المريد.
وثالث يشعر أنّ ما فجّره من طاقات قليل، وأنّ نفسه وقواه الكامنة وطموحه الكبير تنطوي على طاقات مدخرة تنتظر الفرصة المواتية لتفجيرها، فهو دائب السعي لإنجاز المزيد والأفضل والأنفع، فهو يعتبر كلّ يوم يمرّ به فرصة جديدة.. وصفحة جديدة يمكن أن يكتب عليها إنجازاً جديداً.
فتىً كهذا شعاراته هي هذه:
إذا مرّ بي يومٌ ولن أتّخذ يداً **** ولن أستفد علماً فما ذاك من عمري
وقول الشاعر الآخر:
وإذا كانت النفوسُ كباراً **** تعبت في مُرادِها الأجسامُ
وقول (المتنبِّي):
على قدرِ أهلِ العَزْم تأتي العَزائمُ **** وتأتي على قدرِ الكرامُ المكارمُ
وتعظمُ في عينِ الصّغير صِغارُها **** وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ
وقول (المتنبِّي) نفسه:
إذا غامرتَ في شرفٍ مَرُومٍ **** فلا تقنع بما دون النّجومِ
فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ **** كطعمُ الموتِ في أمرٍ عظيمِ
وقول (إيليا أبي ماضي):
الأرضُ للحشراتِ تزحفُ فوقها **** والجوُّ للبازي وللشّاهينِ
وقول (أحمد شوقي):
شبابٌ قُنّعٌ لا خيرَ فيهم **** وبورِكَ في الشّبابِ الطّامحينا
من هنا، كان الاهتمام بالمستقبل نصب عين كلّ إنسان طالبه الله تعالى بالسعي في هذه الحياة الدّنيا. والسعي – كما نعلم جميعاً – حركة أنشط من المشي العاديّ، فهي حركة حثيثة، وهي أيضاً حركة هادفة تتّجه نحو هدف معيّن، وتبحث عن نتيجة أو ثمرة لمساعيها ونشاطاتها:
(وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41).
(وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء/ 19).
والسعي في حياة الإنسان المؤمن وإن كان سعيين: سعياً في الدّنيا وسعياً إلى الآخرة، لكنّه لمن تأمّل جيِّداً سعي واحد، فما السعي في الدّنيا إن كان في خير الإنسان وأهله ومجتمعه وأُمّته إلّا سعي في طريق الآخرة:
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77).
إنّ الشعوب التي خطت خطوات واسعة وواثقة في مضمار العلوم والفنون والاقتصاد والثقافة هي شعوب أولت مستقبلها اهتماماً بالغاً، ولم تقنع بما هو عليه أبناؤها من واقع ماديّ أو معنوي ناهض ومشرق. فهذه اليابان اُنظر كيف نهضت من حطام وأطلال الدمار الشامل الذي لحق بها جرّاء الحرب العالمية الثانية، باحثة عن مستقبل باهر، فكان لها ما أرادت رغم تواضع إمكاناتها المادّية.
والعالم اليوم، أينما اتّجه – يعنى بالمستقبل في أبحاثه ودراساته ومؤسّساته التخصّصية في هذا المجال الحيوي، ولقد سبق ديننا إلى ذلك في تأكيده على المستقبل الأفضل من يوم الأُمّة وأمسها.
ففي الدّعاء: “اللّهمّ… واجعل غدي وما بعده أفضل من ساعتي ويومي”.
وفيه أيضاً: “اللّهمّ.. واجعل الحياة زيادة لي في كلِّ خير”.
فهي دعوة مفتوحة للاستزادة من الخيرات والإبداعات والبركات، والتي تشمل كلّ انتاج ينفع البشرية ويخفِّف آلامها ويصل بها إلى مراقي العزّة والازدهار والنهضة والتطوّر والمنافسة مع الأمم الأخرى في العلم والمعرفة والعمل الصالح، ولا يكون ذلك ممكناً إلّا بجهودنا فرادى ومجتمعين.
نقلا عن موقع البلاغ

Exit mobile version