“مشروع الجنيه” .. حل شعبي مبتكر لمشكلة البطالة للشباب

المتابع للازمات التي تجتازها بلادنا حاليا، والمدقق في الأوضاع السلبية التي يشكو منها معظم الناس .. يستطيع ان يرصد ظواهر اجتماعية عدة تقف وراء تلك الأزمات والمشكلات.. فالركود والاحتكار والتضخم والغلاء.. هي – في جوانب منها- محصلة لظواهر وسلوكيات اجتماعية متفشية في مجتمعاتنا .. كالسلبية والانتهازية والأنانية والجشع.. وغير ذلك من السلوكيات الهدامة الشائعة في زمننا، والتي يتعدى تأثيرها التخريبي المدمر في المجالات الاقتصادية المختلفة، إلى إحداث تصدع خطير في منظومة القيم، وانهيار شامل في لحمة المجتمع.
إذا كان الأمر كذلك .. فان سبيلنا لحل مشاكلنا وانفراج أزماتنا، يجب ان يبدأ من إصلاح القاعدة التي تمثل جسد الأمة – بعد ان استعصت رأسها على الإصلاح – وما نعنيه هنا هو العمل في مجال الإصلاح الاجتماعي، وهو مجال يجب ان نركز عليه حاليا ونعطيه كامل الفرص، بعد أن تعثرت الجهود الرسمية في هذا الخصوص .. ولذا فان بلادنا اليوم في أمس الحاجة إلى أفكار جديدة وحلول خلاقة تعمل على تنشيط دور النخب الوطنية وتنظيم حركة المجتمع المدني وتفعيل جهوده في التصدي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المواطن البسيط . فالنخب الوطنية يجب عليها الآن – أكثر من أي وقت مضى- النهوض بدورها في توجيه وقيادة المجتمع نحو الإصلاح والتغيير .. ويتحتم عليها ان تفعل شيئا جادا ومفيدا إزاء الوضع المتردي الذي يعيش فيه الناس، بدلا من الجدال والكلام النظري الذي لا طائل من ورائه .

من الأفكار الجديدة المطروحة في هذا الشأن فكرة “مشروع الجنيه” التي نعرضها بإيجاز عبر هذه السطور
وهو مشروع شامل ومتكامل للتنمية والنهضة يرتكز على المشاركة الشعبية والدعم المجتمعي، وهو ليس مجرد فكرة نظرية مجردة، بل يقدم نموذجا تطبيقيا متكاملا، ويضع خطوات تنفيذية محددة على ارض الواقع ..
كما يقدم المشروع آليات مبتكرة وغير تقليدية لفكرة الاكتتاب الشعبي، ويستلهم عادات شعبية صميمة مثل “النقطة” و”الجمعية” المنتشرة في الريف والأحياء الشعبية، وفكرة “مشروع القرش” للراحل احمد حسين.
يتمثل “مشروع الجنيه” في تعميم صور التكافل الشعبي والتضامن الاجتماعي على أوسع نطاق ممكن وبطريقة منظمة من خلال تحصيل هامش نقدي بسيط وغير مؤثر من كل مصري عامل (نصف في المئة من الدخل الأساسي) في وعاء ادخاري، تنمى موارده بمساهمات رجال الأعمال وتبرعات الموسرين وأموال الزكاة وغيرها.. ومختصر الفكرة أن يقوم هذا الوعاء بتمويل مشاريع زراعية وصناعية ضخمة وكثيفة العمالة تساهم في علاج مشكلة البطالة، وبناء الاقتصاد الوطني، والتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد، وتحقيق حلمنا في زراعة ما نأكله وصناعة ما نستورده.. ويكون تنفيذ هذه المشاريع بيد جمعية أهلية تضم صفوة أبناء المجتمع، وتحت إشراف شعبي وإعلامي كامل، على أن يقتصر الدور الحكومي في إطار الرقابة فقط (لكي تعطى الفرصة كاملة لتجربة إسهام المجتمع المدني في حل مشكلاتنا).. وتتحدد أنواع وأماكن هذه المشاريع طبقا لأجندة وطنية وخطة مستقبلية طموحة يضعها خبراء مستقلون في الاقتصاد والتنمية، تراعي احتياجات البلاد، وتعطى الأولوية فيها للمشاريع الزراعية والصناعية (الاستراتيجية).. وذلك بهدف سد احتياجات الناس وتقليل الاعتماد على الاستيراد من الخارج.

الجديد في “مشروع الجنيه” هو سعيه لتحقيق مبدأ “اقتصاد المشاركة” وذلك بسماحه تملك العاملين في كل مشروع أسهما بقيمة نصف المشروع، في حال إثبات كفاءتهم في العمل ونجاح مشروعهم وبلوغ أرباحه قيمة التأسيس من دون إضافة أية فوائد.. وذلك كحافز للعاملين ولضمان جدية العمل ونجاح المشروع وتحقيق سرعة السداد.. (لأن تملكهم لأسهم المشروع متوقف على نجاحه).. أما النسبة الباقية فتظل ملكا للمجتمع كأحد الموارد الدائمة للصندوق, ويخصص ريعها للمساهمة في إنشاء مشاريع جديدة . وتختلف هذه الفكرة جذريا مع فلسفة الصندوق الاجتماعي، الذي يعطي للناس قروضا بفوائد يعجزون عن تسديدها في كثير من الأحيان، مما يحملهم أعباء فوق أعبائهم ويطالبهم بما لا يطيقون.
وبذلك يقدم “مشروع الجنيه” نموذجا اقتصاديا مغايرا لكل من الرأسمالية المتوحشة والاشتراكية البائدة، ويمكنه ان يعالج ظاهرة  الانفلات الرأسمالي العشوائي الذي تعانيه بلادنا.. والذي أطلق سباقا محموما نحو الكسب المادي بغض النظر عن شرعيته وانعكاساته السلبية على مجتمعاتنا.. لكن في الوقت نفسه يشجع “مشروع الجنيه” الطموح الإنساني الغريزي والكفاءات الفردية التواقة نحو التملك والإبداع والابتكار.

الجديد في الفكرة أيضا هو تشجيع المجتمع بكل طبقاته وفئاته (كل حسب دخله وامكاناته) على المشاركة في عمل اقتصادي وطني له مردوده الاجتماعي، وتعظيم الاستفادة من المساهمات الشعبية عن طريق تنظيم عمليات التبرع وإخراج أموال الزكاة في قنوات شرعية مضمونة ولغايات محددة ومفيدة لأبناء المجتمع.
كما أن مساهمة كل مصري عامل بنصف في المئة من دخله الشهري لدعم الصندوق، لا تشكل في حقيقة الأمر عبئا إضافيا على الفقراء ومحدودي الدخل.. ومعروف أن في بعض البلاد المتقدمة تحصل ضريبة بسيطة من العاملين تحت مسمى (دعم إعانات البطالة).. ومعروف أيضا أن مرتبات العاملين في الدولة والقطاع الخاص في مصر يستقطع منها مبالغ مالية شهرية تحت مسميات مختلفة، وأغلب هذه الاستقطاعات غير ضرورية ولا يستفيد العامل منها شيئا في الواقع (باستثناء التأمينات وصندوق نهاية الخدمة)..
وهكذا فان هذه المساهمات الرمزية التي سيدفعها المصريون بجميع طبقاتهم عن طيب خاطر كمساهمة رمزية منهم تجاه إخوانهم وأبنائهم الذين يعانون البطالة -(كل بيت في مصر الآن به فرد أو أكثر يحتاج إلى فرصة عمل )- لن يتأثر بدفعها حتى أفقر الناس وأقلهم دخلا.. وسيكون لها وقع السحر في إرساء دعائم هذا المشروع الوطني الكبير, الذي سيفتح آفاقا جديدة للعمل الاجتماعي لم تشهده مصر من قبل علي هذا النطاق الواسع.. وسيرى الجميع محصلة إسهاماتهم البسيطة على ارض الواقع في صورة مشروعات إنتاجية كبرى (بمعدل مشروع اقتصادي كبير كل شهر في احد مجالات الاستثمار).
فيما سيتيح “مشروع الجنية” لرجال الأعمال المصريين فرصة المساهمة في استقرار بلادهم وتحقيق التوازن الاجتماعي المطلوب, والذي من شأنه الحفاظ علي مصالحهم وحماية استثماراتهم من القلاقل الاجتماعية والاقتصادية التي تلوح في الأفق.
إلي ذلك يفتح “مشروع الجنية” الباب أمام القادرين والموسرين للتبرع، وإخراج زكاة أموالهم.. وكثير منهم لديه بالفعل رغبة حقيقة في ذلك, ولكنهم لا يجدون –مع الأسف– القنوات الشرعية المأمونة, التي تقوم بالتصرف الأمين وتوجيه أموالهم إلي الصالح العام وإلي الاحتياجات الحقيقية التي تفيد الناس.
و”مشروع الجنيه”  سيحقق أيضا المعادلة الصعبة التي نتمناها جميعا، وهي: مشاركة الناس والحكومة والقطاع الخاص في عمل واحد يحقق المصلحة العامة وفي حدود الامكانات المتاحة.. والمتوقع لهذا المشروع أن ينجح في جمع مئات الملايين من الجنيهات شهريا من الهامش النقدي ( الغير مؤثر ) لدى الناس .

ولكي يحوز “مشروع الجنية” ثقة الناس والدولة معا ويحقق أعلي قدر من المصداقية والشفافية.. تشارك الجهات الحكومية المعنية في رقابة كافة الإجراءات التنفيذية للمشاريع, ولهذه الجهات الحق في مراجعات سجلات المشروع وميزانيته الشهرية والسنوية ومتابعة أعمال جميع المشاريع المنفذة، وينحصر دور الحكومة في هذا الإطار فقط.. فضلا عن تقديم التسهيلات القانونية والإجراءات الرسمية، وتخصيص الأراضي التي ستقوم عليها المشاريع..

ان “مشروع الجنيه” هو فكرة اقتصادية جديدة ذات بعد اجتماعي تهدف إلى حل مشكلة البطالة.. وهو فكرة يمكن أن تحقق حلمنا في زراعة ما نأكله وصناعة ما نستورده من خلال الاعتماد علي الموارد الشعبية الذاتية والامكانات المتاحة.. وهو دعوة تستنهض همم المصريين وتبث روح جديدة في صفوفهم في وقت نشكو فيه جميعا من ضعف الانتماء وغياب المشروع الوطني الكبير.. وهو أيضا دعوة لرجال الأعمال للقيام بدور اجتماعي فاعل ومؤثر, وللنخبة من المثقفين والسياسيين ورجال الفكر والاقتصاد والإعلام للتفاعل الموضوعي مع قضايا المجتمع.. وهو أخيرا فكرة تسعى للتخلص من الضغوط السياسية الناجمة عن القروض والمعونات الأجنبية، التي تهيمن على القرار الوطني، وتثقل كاهل مصر وتعطل إرادتها وتفرض قيودا على دورها الحضاري إقليميا وعالميا .. مما يضعف حاضر البلاد ويهدد مستقبل أجيالها.

عاطف مظهر

Exit mobile version