نحل الإبداع الهندي يلسع التخلف

حقيقة عبر عنها “أمارتيا صن” العالم الاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل، وفي ظل مناخ الحرية ينبت الإبداع الهندي الذي يضع الأساس للتنمية، وهو الأساس الذي يصنع “المجال المشترك” الذي تتعاون فيه مؤسسات العمل الأهلي مع المؤسسات المدعومة من الدولة؛ لتخلق مناخا مواتيا لاستكشاف وتوثيق وتطوير واستثمار الإبداع والابتكار على مستوى جماهير الشعب من مزارعين وحرفيين وغيرهم، وذلك من خلال بناء رباعي الأركان ينبني في الأساس على ما يعرف باسم “شبكة نحل العسل”، وهي الشبكة التي باتت تثمر عسلا يغذي مشروع النهضة الهندية.

المنظومة الرباعية الهندية تتكون بالأساس من:
شبكة نحل العسل: وهي أكبر شبكة شعبية في العالم من المزارعين والحرفيين المبدعين والمبتكرين، تهدف إلى التعرف على هؤلاء المبدعين في المجتمع، ودعمهم ومكافأتهم، وتشبيكهم وتقديم التسهيلات لحماية ابتكاراتهم، وتعمل الشبكة بالأساس مع أولئك الذين يعملون في مجالات التكنولوجيات الملائمة والمستدامة المبنية على المعارف والخبرات التقليدية، كما تعمل مع أولئك الذين يقدمون ابتكارات خضراء للحفاظ على التنوع الحيوي في مجتمعاتهم المحلية، وتقوم الشبكة بإصدار “نشرة نحل العسل” باعتبارها الأداة الأساسية للتوعية والتواصل وذلك منذ عام 1989.

جمعية سريستي: وهي جمعية البحوث والمبادرات من أجل التكنولوجيات والمؤسسات المستدامة، والتي تأسست عام 1993 في أحمد أباد بولاية جوجارات الهندية استجابة للحاجة إلى الدعم المؤسسي لأعمال شبكة نحل العسل، تأسست الجمعية لتوفير الدعم التنظيمي والفكري واللوجستي للشبكة، وذلك من خلال التوثيق والنشر والتطوير المنظم للإبداعات الشعبية الخضراء، وتوفير الحماية لحقوق الملكية الفكرية للمبدعين الشعبيين، والعمل من أجل الحفاظ على التنوع الحيوي المحلي، كما تسعى لتوفير الدعم لمشاريع المبدعين الشعبيين، وإدارة قاعدة البيانات الخاصة بهم، إضافة إلى دعم إصدار النشرة الدورية لنحل العسل بثلاث لغات: الإنجليزية والهندية والجوجاراتية.

شبكة تحفيز الإبداعات الشعبية (جيان): وقد تأسست بدعم من حكومة جوجارات عام 1997 لتوفير حضّانات واستثمار الإبداعات الشعبية والترخيص للتكنولوجيات الشعبية على مستوى الولاية والدولة وكذا على المستوى الدولي، وقد قامت الشبكة بتأسيس أستوديو تصميمي للإبداعات الشعبية عرف باسم “جريدز”، ووحدة للمساعدة في الحصول على براءات الاختراع.

المؤسسة الوطنية للابتكار: وقد تأسست عام 2000 بدعم من قسم العلوم التكنولوجيا بالحكومة الهندية بهدف رئيسي هو توفير الدعم المؤسسي لجهود استكشاف وإكثار الابتكارات الشعبية الخضراء، والمحافظة عليها وترقيتها، والمساعدة في تحويلها إلى أنشطة ذاتية الدعم، وتطمح المؤسسة إلى جعل المجتمع الهندي مجتمعا مبتكرا ومبدعا ودفعه ليحوز مكانة القيادة العالمية في مجال التكنولوجيات المستدامة.

فلسفة نحل العسل
يرمز اسم “نحل العسل” الذي تتخذه تلك الشبكة/ الحركة إلى لون من الخطاب العادل والموثوق والمسئول كما يرمز إلى الدعوة الأساسية التي تتبناها الحركة وهي “تعلم الناس من الناس” على أساس من الأخلاقيات التي يتم الالتزام بها في استخراج المعرفة وتوثيقها ونشرها وتجريدها في شكل نظريات وتقنيات، وهو ما يمثل الاهتمام المركزي لشبكة نحل العسل.

فكما أن الأزهار لا تتضرر حينما يؤخذ رحيقها وحبوب لقاحها عن طريق نحل العسل، فكذلك ينبغي ألاّ يتضرر الناس حينما توثق معارفهم من قبل غيرهم، إذ ينبغي الاعتراف بفضلهم والحفاظ على ملكياتهم الفكرية، وكما أن النحل يقوم بوظيفة غاية في الأهمية من خلال التلقيح المتبادل مما يثري التنوع ويحافظ على جريان دورة الطبيعة في مجراها، كذلك لابد من أن يحدث التواصل بين الناس بلغاتهم المحلية وبالطريقة التي يفهمونها حتى تقوى الصلات التي يتبادل الناس المعارف والمنافع من خلالها.

وحينما تثمر المعرفة الموثقة والمنقولة ثروة عبر القنوات التجارية وغير التجارية بعد أن توضع عليها قيمة مضافة أو بدون ذلك، فإن على أصحاب الحق الأصلي في تلك المعرفة أن يحصلوا على نصيبهم العادل من تلك الثروة، وقبل نشر تلك المعارف على النطاق العام فإن على الناس ملاك تلك المعرفة أن يعطوا موافقتهم على ذلك، وهم على بصيرة، هذه هي الفلسفة الأساسية لعمل الشبكة/ الحركة.
وتتبنى “حركة نحل العسل” انطلاقا من تلك الفلسفة سبعة قيم أساسية؛ وهي: الامتياز، والإنصاف، والبيئة، والكفاءة، والأخلاقيات، والتعاطف والتعليم، وهي القيم التي يرى أصحابها أنها توفر الكيمياء الصحيحة للمجتمعات كي تتغلب على جمودها وتتحرك للأمام نحو مجتمع رءوف ومبدع ومتنافس ومتعاون في آن واحد.

آفاق حركة “نحل العسل”

إذا كانت شبكة نحل العسل هي محور منظومة الإبداع والابتكار الشعبي، فإن جمعية سريستي هي الترس الأكبر المحرك لتلك المنظومة، حيث تقوم الجمعية بعدد من الأنشطة الرئيسية على المستوى القومي الهندي منها:

الاستكشاف والتوثيق والنشر: يركز هذا النشاط على استكشاف وتوثيق الابتكارات الشعبية والممارسات التقليدية الفريدة من المناطق المختلفة للوطن الهندي، ومشاركة في التعلم من تلك الابتكارات والممارسات مع أوسع نطاق من الجمهور.

المصادقة والقيم المضافة: ويهدف هذا النشاط إلى تطوير الصيغ العشبية المستقاة من الممارسات الشعبية إلى منتجات حيوية قابلة للتسويق في أشكال ملائمة للمستخدم، وذلك من خلال أنشطة البحوث والتطوير.

تحليل السياسات والمناصرة: ويهدف إلى إحداث تغيير في السياسات وإدخال بعض السياسات والأنظمة التي تستهدف الترويج للابتكارات والممارسات الشعبية.

الحملات وبناء الوعي: وتستهدف بناء وعي ورأي عام مناصر للابتكارات الشعبية والممارسات التقليدية والزراعة العضوية.

بناء مجتمع المعرفة: ويهدف إلى بناء مجتمع حقيقي وتخيلي من المتخصصين والخبراء في مجالات الاختراع والابتكار والمعرفة التقليدية.

المبادرات التعليمية: ويهدف هذا النشاط إلى استكشاف وتوثيق وتشجيع ودعم الوسائل الابتكارية في تعليم الأطفال حول موضوعات الابتكار وبناء الوعي حول ثراء التنوع الحيوي من حولهم.

مبادرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات: ويهدف إلى تكامل خدمات المعلومات والاتصالات مع بناء شبكات المعرفة التي تربط المبتكرين الشعبيين والممارسين التقليديين عبر حدود الإقليم واللغة والثقافة.

إدارة الموارد الطبيعية: ويهدف لدعم المبادرات الابتكارية للحفاظ على الطبيعة والتنوع الحيوي، وإعطاء حوافز للأنشطة الزراعية التي تحافظ على التنوع الحيوي وتشجيع ابتكارات المزارعين ومشاركة المجتمع في ذلك.

على المستوى الدولي: تلعب سريستي دورا دوليا هاما في مجالات تشجيع الاستثمار وحقوق الملكية الفكرية، ونشر المعارف الخاصة بالإبداع والمعرفة التقلدية، وتشجيع السياسات الملائمة للابتكارات والمعارف المحلية والزراعة العضوية.

أما شبكة نحل العسل فتضم قاعدة بياناتها الآن في الهند وحدها 10 آلاف من الابتكارات الشعبية التي أبدعها المزارعون والحرفيون البسطاء في جميع أنحاء الهند، والذين توفر الشبكة فرصة لتواصلهم معا وتواصلهم مع العلماء والأكاديميين، وهو التواصل الذي يعبر حدود اللغة والثقافة والإقليم ليغذي ويشجع ويوفر الحوار النقدي البناء حول ابتكاراتهم وتجاربهم.

وتوفر الشبكة معلومات حول تلك الابتكارات التي أبدعها الأعضاء الآخرون في الشبكة دون أعباء مادية إضافية، وهو ما يساهم في زيادة إنتاجية المزارعين والحرفيين نتيجة تطوير أعمالهم باستخدامهم لتلك المعلومات.

وتصدر الشبكة نشرة فصلية بستة لغات محلية إضافة إلى اللغتين الإنجليزية والإسبانية لتكون أداة للتواصل والحوار، وتسلط النشرة الضوء على قصص وأخبار الابتكار والإبداع الشعبي، ودروس من الزراعة العضوية والإبداع الشعبي في الحفاظ على التنوع الحيوي، والضغوط التي تتعرض لها الموارد الطبيعية في المناطق المختلفة، كما تحفل النشرة بتفاعلات القراء من تساؤلات وتعليقات وردود المحررين عليهم، وتحظى النشرة بقراء من 75 دولة حول العالم.

هم يبتكرون.. ونحن قاعدون

لا شك أن الاختراع والابتكار حينما يصبح بيئة شعبية سوف يصبح قوة جبارة في التنمية والنهضة، وإذا كان أفق الرسالة التي تحملها المؤسسة الوطنية الهندية للابتكار هو أن تكون الهند قائدة العالم في التكنولوجيا المستدامة؛ فإن تلك القيادة يسبقها خلق مجتمع مخترع ومبتكر دون معوقات اجتماعية أو اقتصادية تحول دون تطوره، ولا أعلم لماذا تذكرت حينما طالعت تلك التجربة مقولة التلامذة في المسرحية الكوميدية “مدرسة المشاغبين”.. “واحنا قاعدين” دليلا على براءتهم من أي فعل قام به الأستاذ “الملّواني”، وهكذا نحن أيضا في عالمنا العربي بريئون من هذا النوع من العمل الأهلي الخلاق وبريئون من أي فعل يقوم به “الهنود” حتى لو كان منظومة للإبداع والابتكار والاختراع الشعبي.

مجدي علي سعيد  نقلا عن إسلام أون لاين

Exit mobile version