كان الوقف على الأمهات المرضعات أحد مآثر الحضارة الإسلامية التي ترحم الإنسان، وتحترم كرامته، وتوفر حاجته، وتهتم بالمرأة والطفل على حد سواء، وكان ميزاب قلعة صلاح الدين بدمشق للماء المحلي واللبن شاهدا على إنسانية المسلمين الذين شيدوا حضارة الإنسان فشرقت وغربت، وأسهموا بجهود مشكورة ومأجورة في ميادين الخير والبر والعطاء.
كانت الأمهات المرضعات يذهبن موفورات الكرامة، عزيزات الأنفس، يأخذن الحليب والماء المحلي بالسكر لتهتم بصحتها وصحة وليدها، حتى لا تتضرر بنقص الغذاء أو يتضرر وليدها.
وقد قامت الحضارة الإسلامية على الاهتمام بالروح والجسد معا، فإذا قرأنا “ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا” وجدنا التوجيه النبوي “إن لبدنك عليك حقا”، ولذلك لم تعرف الانفصال بين الدين والدنيا، ولم تهتم بالعلم الشرعي وتهمل العلم التجريبي الذي يرعى البدن والنفس، حتى كان الشافعي ينصح بألا يسكن المسلم في بلد لا يجد فيه من يفتيه في أمر بدنه كما يفتيه في أمر دينه، وقد وجدنا من علماء المسلمين من يجمع بين الطب والشريعة، ويفتي الناس في كليهما، مثل ابن رشد الحفيد الذي كان يهرع الناس إليه في الطب كما يهرعون إليه في الفتوى، وألف في الطب كتاب “الكليات“، وفي الفقه كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، وابن النفيس الدمشقي الذي كان يدرس الطب والفقه، وله في الطب كتاب “الشامل” وفي الفقه كتاب “التنبيه” في الفقه الشافعي.
الوقف الاجتماعي
وكان هذا الوقف أحد أصناف الوقف الاجتماعي – إلى جوار الوقف العلمي والثقافي والصحي – الذي أبلى فيه المسلمون بلاء حسنا، وتنافسوا في تكثيره وتوسيعه وتنويعه، حتى شمل: الوقف على الأيتام والوقف على المقعدين والعجزة (مأوى وطعاما وكسوة)، والوقف على تزويج الشباب والفتيات، والوقف على المطلقات والأرامل اللائي ليس لهن أهل في البلد أو المعدمات، والوقف على دور الضيافة والمطاعم الشعبية التي كان يفرق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شوربة) وحلوى، والوقف على المعسرين وأصحاب الديون لسداد ديونهم، والوقف على المرافق العامة كشق الأنهار والترع ومياه الشرب، والوقف على علاج الحيوانات المريضة لإطعامها ورعايتها، والوقف على الخيول والحيوانات العاجزة المسنة فترعى في الأرض الخضراء الموقوفة حتى تلاقي حتفها، والوقف على المرابطة على الثغور لمواجهة خطر الغزو الأجنبي على البلاد، فقد كانت هنالك مؤسسات خاصة بالمرابطين في سبيل الله، يجد فيها المجاهدون كل ما يحتاجون إليه من سلاح وطعام وشراب، وكان لها أثر كبير في صد غزوات الروم أيام العباسيين، وصد غزوات الغربيين في الحروب الصليبية عن بلاد الشام ومصر، ووقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله عز وجل، وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصناعة الحربية وقيام مصانع كبيرة لها في بلادنا، حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية، يفدون إلى بلادنا – أيام الهدنة – ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء. حتى قال الدكتور مصطفى السباعي معلقا على هذا: فانظر كيف انقلب الأمر الآن فأصبحنا عالةً على الغربيين في السلاح لا يسمحون لنا به إلا بشروط تقضي على كرامتنا واستقلالنا.
الجسد الواحد
وكانوا ينطلقون في هذا كله من معنى الجسد الواحد الوارد في حديث النبي: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى”، وكذلك من فهم عميق لإسلامهم، الذي يرى أن الأكباد الجائعة أولى بالنفقة من كسوة بيت الله الحرام، وأن العبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها إلى الغير مقدمة على العبادات التي يقتصر نفعها على النفس، وأن قضاء حوائج الناس من العبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها، وهي أولى بالتقديم من القرب المحضة إذا تعارضتا، حتى قال الحسن البصري:”لأن أقضي لأخ حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهرين”، وأن في كل كبد رطبة أجرا، وأن من أحب الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله إدخال السرور على القلوب بأي وسيلة، وبأي صورة، وبأي لون من ألوان القربات، وهذا هو جوهر رسالة الإسلام.
وكانوا لا يقصدون إلا وجه الله، ولا يطمعون إلا في رضاه، لسان حالهم يقول: “لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا”، وينعكس ذلك في سلوكياتهم في المجتمع رحمة ورقة ومواساة، وعلى هذا المرتكز الديني الخالص قام نظام اجتماعي متماسك، منذ قيام دولة الإسلام الأولى.
وتعاليم الإسلام وتوجيهاته إن لم تثمر رحمة في قلب العبد تدفعه لمواساة المنكوبين والمحاويج والمعاويز، فليلتمس له قلبًا، فإنه لا قلب له.
أ. د/ فتحي أبو الورد