كعادته كل صباح، ارتدى الشاب العشريني محمد بركات ملابسه؛ تمهيدًا للذهاب إلى مقر عمله، في منطقة شق الثعبان، شرقي طريق الأوتوستراد، حيث يملك ويدير إحدى ورش الرخام هناك. تُعد تلك المنطقة -التي تمتد على مساحة هائلة تُقدر بأكثر من 6 ملايين متر مربع- قبلة الباحثين عن قطع رخام بأسعار تنافسية. يعمل “بركات” في هذا المجال منذ سنوات عديدة، فعلى الرغم من حصوله على شهادة عُليا من كلية التجارة، إلا أنه فضَّل العمل الحر؛ لما يحققه من عوائد مادية معقولة، عوضًا عن وظيفة المُحاسب التي “لا يُمكن أن تُسمن ولا تُغني من جوع”.
على بُعد مئات الكيلومترات من ورشة “بركات” لتصنيع الرخام، قبعت قطعة هائلة من الرخام بعرض 6 أمتار، وطول يناهز المترين، وسُمك يبلغ نحو 5 سنتيمترات على أرضية أحد الموانئ المصرية. كانت السلطات المعنية قد رفضت تصدير تلك القطعة إلى دولة إيطاليا، بسبب عيوب ظاهرة على سطحها الخارجي.
رأس الحوت
في منجم “الشيخ فضل” المتاخم لمحافظة المنيا المصرية، يُمكنك سماع دوي المعدات الثقيلة العاملة هناك طيلة النهار وبضعة من الليل. في ذلك المكان يعمل مئات العمال على قدم وساق؛ لاستخراج كميات كبيرة من أفضل أنواع الرخام في العالم، تمهيدًا لتصديرها إلى السوق العالمية، وبخاصة إلى إيطاليا. في أحد أيام العمل، كما في غيره من الأيام، استخرج العمال مئات الأطنان من المنجم، من بينها تلك القطعة التي استقرت على رصيف الميناء، حيث رفض المسؤولون –لحسن الحظ- تصديرها إلى الخارج، لأنها كما تراءت لهم “فيها عيوب”.
استقرت تلك القطعة في نهاية المطاف في ورشة “بركات”، حيث بدأ العمال في العمل عليها، تمهيدًا لبيعها بثمن بخس؛ لكونها قطعة تشوبها العيوب. وفي أثناء عملية التقطيع، وصل “بركات” إلى الورشة، ووقعت عيناه على القطعة، لتنتابه الدهشة، وترتسم على ملامحه الصدمة. وسرعان ما طالب العمال بالتوقف، واقترب مليًّا وسط غبار الرخام الخانق، مسح بيديه سطحها، تصاعدت دهشته، فما يُشاهده الآن، لم يكن ليخطر له على بال.
“هذه رأس حوت”.. بتلك العبارة بدأت الحكاية. قالها “بركات” للعمال الموجودين حوله، ابتسم بعضهم، في حين سخر البعض الآخر، فالنقوش الموجودة على الحجر –بالنسبة لهم- لا تعدو كونها عيوبًا في قطعة الرخام. طالب “بركات” العمال بتوخي الحذر في أثناء العمل عليها، مشرفًا هو بنفسه على تقطيعها، وعندما أمعن النظر فيها، وجد أن “رأس الحوت” ليس وحيدًا، فهناك بضعة أشكال أخرى تُشبه “الفقرات الظهرية”، وأشكال أخرى “تبدو وكأنها أسنان”.. “أحسست بفرحة عارمة.. وكأنني عثرت على كأس مُقدسة”، يقول “بركات” في تصريحات خاصة لـ”للعلم”.
طلب “بركات” من العمال وضع قطع الرخام التي تحوي الحفرية في مكان آمن بعيدًا عن القطع الأخرى، وجلس يفكر فيما يجب أن يفعله. تواصل مع أحد أصدقائه العاملين في الحقل العلمي ليدله على الطريقة المُثلى للتعامل مع الأمر. أخبره الصديق أن لا أحد يهتم بمثل تلك الأمور. بعد ساعات من التفكير، تذكر مشاهدته لأحد الفيديوهات الموجودة على صفحة شهيرة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي –الحفرجي- التي دشنها الباحث في مجال الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة “عبد الله جوهر”.
تواصل “بركات” مع “جوهر” عبر صفحة “فيسبوك”، أخبره أن لديه قطعة من الرخام تحوي ما يُشبه حفرية لحوت. طلب منه “جوهر” إرسال صور لقطع الرخام، وبالفعل صورها الشاب وأرسلها عبر تطبيق محادثة فيسبوك.
“كان الأمر مفاجئًا للغاية”.. يبدأ عبد الله جوهر حديثه لـ”للعلم” بتلك العبارة، يقول إنه بمجرد مُشاهدته لقطع الرخام عرف أنها تحوي كنزًا حفريًّا، وقد تُشكل نقلة –أو إضافة كبيرة على أقل تقدير- في تاريخ علم الحفريات. أرسل “جوهر” الصور إلى مُشرفه الأكاديمي الدكتور “هشام سلام”، الذي بادره على الفور بضرورة تحديد موعد مع صاحب الحفرية؛ للتفاوض معه على تسليم تلك القطع الفريدة لمركز الحفريات الفقارية بالجامعة.
وبالفعل، حدد “جوهر” موعدًا مع “بركات”، وتوجه بصحبة “سلام” إلى منطقة شق الثعبان للحصول على قطعة الرخام. توقع “سلام” و”جوهر” أن يدخلا في مفاوضات شاقة من أجل الحصول على تلك القطعة المميزة، إلا أنهما وجدا أن “بركات” متفهم للغاية. إذ لم يوافق ألبتة على أخذ مُقابل مادي لقطعة الرخام الفريدة، وتبرع بها لصالح مركز حفريات جامعة المنصورة، على حد ما يقول “سلام”، في تصريحات خاصة لـ”للعلم”.
حوت المطبخ
لكن.. لماذا وافق الشاب “بركات” على التبرع بالحفرية بتلك السهولة رغم أنها قد تُساوي ثروةً إذا ما عرضها للبيع على خبراء أجانب؟ يُجيب الشاب عن تساؤل “للعلم” بقوله: “عرفت من وسائل التواصل الإجتماعي بقصة حوت المطبخ الإيطالي، وفكرت أنني لست أقل من بائع الرخام الإيطالي الذي تبرع بتلك الحفرية لجامعة إيطالية”.
ففي عام 2002، وفي أثناء عملية تقطيع اعتيادية لقطع رخام مصرية في ورشة تقع بالقرب من مدينة “بيزا” الإيطالية، عثر صاحب الورشة “فرانسيوني” على عظام متحجرة لحيوان بداخل الكتلة الرخامية. وعلى الفور، اتصل بعلماء الحفريات في جامعة بيزا، فانتقل فريق منهم على الفور إلى الورشة، وهناك فحصوا الحفرية فحصًا مبدئيًّا؛ ليجدوا أنها تعود إلى أحد أنواع الحيتان التي عاشت في مصر قبل ملايين السنوات.
كانت تلك القطعة مُستخرجة هي الأخرى من مناجم “الشيخ فضل”، ويقول عالم الحفريات الإيطالي “جيوفاني بيانوتشي” إنها أكثر أهميةً من عظام الكثير من الديناصورات، فبعد أن فحصها العلماء، وجدوا أنها تنتمي إلى “حوت برمائي” جديد لم يتم الكشف عنه قبل ذلك، يتمتع بحاسة الشم، ويستطيع الغطس في الماء لفترات أطول بكثير من الحيتان المُعاصرة. وهو الأمر الذي يدعم النظرية الأحيائية الأكثر موثوقيةً إلى الآن، والمعروفة على نطاق واسع باسم نظرية التطور.
وبعد سنوات طويلة من البحث، نشر العلماء دراسةً وافيةً عن ذلك الحوت، وأطلقوا عليه اسم “حوت المطبخ”؛ تيمنًا بقطعة الرخام التي كان سينتهي بها المطاف داخل أحد المطابخ الإيطالية.
كنز مصري أصيل
يرى “بركات” أن تلك الحفرية “كنز مصري أصيل”، يجب أن يدرسه المهتمون والمختصون بعلوم الحفريات، “قبل أن أقابل فريق جامعة المنصورة سيطرت عليَّ الشكوك.. لكن بمجرد أن شاهدتهم وتحدثت معهم شعرت بالطمأنينة والفخر؛ لوجود علماء مصريين لا يقلون في الكفاءة عن العلماء الأجانب”.
تقع محاجر الشيخ فضل في وادي طرفة بالمنيا، تتشكل تلك المحاجر من مجموعة من الأودية الجافة التي يتراوح عمر صخورها بين الزمن الثالث “الإيوسين الأوسط” والزمن الرابع “الهولوسين”. وهذا يعني أن عمر الحوت قد يتجاوز الـ40 مليون سنة! ولذا “يبدو أن تلك الحفرية لن تقل أهميةً عن حوت المطبخ” على حد قول “جوهر”، الذي يُشير إلى أن الفحص الأولي لأجزاء تلك الحفرية يُشير إلى كونها “حوتًا جديدًا بنسبة تزيد على 60%”. ويضيف: “فعلى الرغم من أن الحفرية تحتاج إلى سنوات طويلة لدراستها، إلا أن الخصائص الأولية لها تقول إنها قد تكشف عن نوع جديد من الحيتان”.
يُشيد “سلام” بوعي الشاب محمد بركات، ويرى أن القصة إلى الآن لا تتعلق بالجانب العلمي؛ إذ إنهم لا يزالون في مرحلة فحص الحفرية، “يجب أن نشكر الشاب على اهتمامه وتواصله معنا”. ويقول إن الورقة العلمية ستنسب الفضل بكل تأكيد إلى “بركات”؛ إذ إن الكائن المزمع اكتشافه سيطلق عليه اسم عائلته، والذي قد يُخلد في تاريخ الحفريات تحت اسم: “الحوت بركات”.