المجلةابتكارات جديده

ابتكار تقنيات للتنبؤ بكيفية ربط عُقد قوية تفيد في التسلق والإبحار

كيف يمكن للنظرية الرياضية التنبؤ بأقوى العُقد في الواقع؟ لقد ظلت الإجابة عن هذا السؤال بعيدة المنال، على الرغم من اعتماد البشر على العُقد على مدار آلاف السنين في أثناء صيد الأسماك والحيوانات، وبناء المساكن والمآوي، وتسخير قوة الحيوان. من خلال استخدام ألياف متغيرة اللون لاختبار نظرية رياضية اختبارًا تجريبيًّا، بدأ الباحثون في تطوير نماذج أكثر واقعية، يمكنها توضيح القواعد التي تحكم استقرار العُقد.

عادةً ما ركّزت النظرية الرياضية للعُقد على تصنيف البنى المختلفة لتشابكها دون مراعاة الإجهاد والانفعال الميكانيكي. وللتنبؤ بقوة العُقد على نحوٍ أفضل، أجرى باحثو معهد ماساتشوستس للتقنية تجاربهم على العُقد المصنوعة من ألياف ضوئية خاصة يتغيّر لونها كلما تمددت. وأتاح ذلك لفريق الباحثين مقارنة تنبؤات الإجهاد الميكانيكي لنماذجهم الرياضية بتلك الناتجة عن تجارب الألياف متغيرة اللون، وبالتالي، تكوين نماذج أكثر دقة يمكنها محاكاة تعقيدات العُقد، وربما، البنى المتشابكة الأكثر تعقيدًا.

يقول يورن دونكل، عالِم الرياضيات بمعهد ماساتشوستس للتقنية: “طوّر زملائي أليافًا بديعة يتغيّر لونها كلما تمدّدت. فلأول مرة، أتاحوا القدرة على ملاحظة الإجهاد والانفعال الميكانيكي في العُقد؛ حيث ينتقلان في الألياف”.

أتاح هذا العمل لدونكل وزملائه وضع ثلاث قواعد حسابية للتنبؤ باستقرار العُقد، على النحو المُفصّل في دراستهم المنشورة في عدد 3 يناير 2020 بدورية «ساينس»Science. وقد ركّزوا على تحليل قوة عُقد “الانحناء” المختلفة، التي يشيع استخدامها بين البحارة والمتسلقين لربط قطعتين من الحبال معًا.

تشير القاعدة الأولى إلى أن العُقد تكتسب الاستقرار عندما تتمتع الجديلتان بعدد أكبر من نقاط التقاطع حيث تتصلان ببعضهما. والقاعدة الثانية هي أن العُقد تصبح أكثر استقرارًا إذا كانت قطاعات الجديلتين عند نقاط التقاطع المتجاورة تدور في اتجاهات مختلفة وتنشئ احتكاكًا مُعاكسًا. والقاعدة الثالثة هي أن العُقد تكتسب استقرارًا عندما تنزلق الجديلتان بعضهما ببعض بشكل تماسي لإنشاء احتكاك في أثناء شدهما في اتجاهين متعاكسين.

هذه النتائج لها بعض التطبيقات العملية. فعلى سبيل المثال، تشير الدراسة إلى أن هناك نوعًا من عقد الانحناء يسمى عُقدة «زبلن» Zeppelin، يتيح استقرارًا أكبر من عقدة الفراشة الألبية الأشهر. ويوضّح دونكل قائلًا: “الملفت في الأمر هو أنه باستخدام هذه القواعد الأساسية، ستكتسب حدسًا سريعًا لتقرّر ما إذا كانت العقدة أكثر استقرارًا أو أقل. كما يمكننا استخدامها كنقطة انطلاق لاستكشاف نماذج أكثر دقة”.

لم يكن عمل فريق معهد ماساتشوستس للتقنية ممكنًا من دون الألياف الضوئية متغيرة الألوان التي طُوِّرَت في عام 2013 في الأصل. وتتمتع هذه الألياف الضوئية بطلاء مصنوع من ترتيبٍ دوريٍّ من نوعين مختلفين من المطاط المرن، ولكلٍّ منهما خصائص مادية مختلفة تؤثر على تفاعله مع الضوء. في أثناء تمدد الألياف الضوئية تحت تأثير الإجهاد الميكانيكي، يتغيّر لونها الأصلي؛ لأن الطلاء يصبح أرق ويغيّر الخصائص البصرية الأصلية. ومثل هذه الألياف مثال على المبدأ نفسه الكامن وراء ظاهرة قوس قزح، الألوان الموجودة في فقاعات الصابون والفراشات والخنافس.

يقول ماتياس كولي، وهو مهندس ميكانيكي بمعهد ماساتشوستس للتقنية وأحد مؤلفي الدراسة: “إذا كانت الألياف غير مشدودة، على سبيل المثال، تبدو حمراء، فسوف تغير لونها إلى البرتقالي، ثم الأصفر، ثم الأخضر، ثم الأزرق، ثم الأرجواني كلما تمددت أكثر فأكثر. بالإضافة إلى ذلك، يمكننا تصميم الملامح الطيفية للألياف واستخدام الحيل المختلفة لإنتاج تدرجات لونية أخرى”.

وفّرت التجارب التي أُجريت على الألياف الضوئية متغيرة الألوان تدقيقًا واقعيًّا، يمكّن النماذج الرياضية التي تتضمن البيانات نفسها من أن تتنبأ بدقة بأقوى أنواع العُقد. وبعد محاكاة أقوى العُقد، رسَم الباحثون مخططات مسطّحة للعُقد من أجل فحص نمط الجدائل التي تُشَكِّل كلًّا منها. كما اختبروا القوة الواقعية للعُقد عن طريق ربط قطعتين من ألياف «داينيما» Dyneema الاصطناعية معًا؛ إذ علّقوا أحد طرفي “الحبل” المتكوّن في آلية إمساك، ثم ربطوا أوزانًا متزايدة الثقل تدريجيًّا بطرف الحبل المتدلي.

يقول لويس كاوفمان، أستاذ الرياضيات الفخري بجامعة إيلينوي في شيكاغو، والذي لم يشارك في دراسة معهد ماساتشوستس للتقنية: إن النتيجة هي “مزيج مثير للاهتمام للغاية من البحث التجريبي والبحث النظري النوعي”.

على الرغم من أن هذه الأساليب قد تكون واعدة، فإنها لا تخلو من القيود. ففي الوقت الذي تبدو فيه المخططات المسطحة للعُقد مفيدةً في نمذجة سلوك العُقد الواقعي حتى الآن، فقد تتطلب التشابكات الأكثر تعقيدًا نمذجةً ثلاثية الأبعاد من أجل الإلمام التام بكيفية تفاعُل جميع القوى المختلفة. ويعقّب كاوفمان: “هذا يطرح مسألةً مثيرةً للاهتمام، وهي تعميم هذه النماذج في واقع كامل ثلاثي الأبعاد”.

يقول دونكل إن أحد القيود الأخرى أن النماذج الرياضية لا تراعي مدى تأثير المواد الليفية المختلفة على الاحتكاك داخل العقدة. ومع ذلك، فإن الفريق حريص على معرفة ما إذا كان بإمكان نماذجهم العثور على قواعد مماثلة في أنظمة تتجاوز عُقد الألياف والخيوط. فعلى سبيل المثال، اكتشفت مجموعات بحثية أخرى بنًى عُقدية تظهر داخل البلورات السائلة المستخدمة في تقنيات مثل أجهزة التلفزيون ذات الشاشات المسطحة.

وبشكل منفصل، يواصل كولي وفريقه الهندسي تطوير الألياف الضوئية متغيرة الألوان؛ بهدف جعلها أكثر كفاءةً في أشكال أكبر وأكثر تحمُّلًا. حتى الآن، يمكن للباحثين صنع ألياف يبلغ طولها حوالي 15 سنتيمترًا في المعمل، مع قدرة كلٍّ منها على الخضوع لآلاف الدورات من التمدُّد وتغيير الألوان، مرورًا بالطيف المرئي بأكمله.

يتطلع المهندسون في النهاية إلى جعل الألياف مناسبةً لتطبيقات مثل الملابس الرياضية والأزياء متغيرة الألوان، إذ قد تساعد التغيّرات اللونية في الإشارة إلى مدى تحمُّل النسيج على مدار الوقت. كما من شأن نسج هذه الألياف في الضمادات الطبية أن يساعد الأطباء والعامة على التحقق بصريًّا من المكان الذي توفر فيه الضمادات أقصى ضغط لإيقاف النزيف بشكل صحيح.

ولكن بغض النظر عن احتمالات التداول التجاري، لا يزال كولي سعيدًا لأن الألياف الضوئية متغيرة الألوان يمكنها أن تساعد زملاءه في حل مشكلة شديدة التعقيد، فيقول: “يتملكني شعور غامر بالحماس حيال الألياف متغيرة الألوان؛ فهي مفيدة حقًّا للبحوث الأساسية الإبداعية”.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى