المجلةبنك المعلومات

التوصل إلى مستشعر ورقي للكشف عن نسب مادة “البيسفينول إيه”

في السنوات الأخيرة، حظي مركب “البيسفينول إيه” (BPA) باهتمام عالمي كبير، بسبب معدلات إنتاجه العالية، واستخداماته واسعة النطاق، وانتشاره في البيئة، خاصةً بعدما تَبيَّن وجود أضرار له يمكن أن تؤثر سلبًا على تطوّر الدماغ والجهاز العصبي وعمليات النمو والتمثيل الغذائي والجهاز التناسلي. ما دعا إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) إلى إنهاء موافقتها على استخداماته في منتجات الأطفال الرضع، كما حظر الاتحاد الأوروبي وكلٌّ من كندا والصين استخدامه في زجاجات الأطفال.

و”البيسفينول إيه”، مركب عضوي من عائلة مركبات “البيسفينولات”، ويُستخدم في تصنيع مجموعة متنوعة من السلع الاستهلاكية الشائعة، مثل زجاجات المياه البلاستيكية والمعدات الرياضية والأقراص المدمجة وأقراص DVD. كما يدخل في تصنيع راتنجات الإيبوكسي Resin Epoxy )نوع من اللدائن)، التي تُستخدم لربط أنابيب المياه، وتُستخدم أيضًا كطلاء داخل العديد من علب الطعام والمشروبات، وفي تصنيع الورق الحراري.

وبالرغم من انتشار منتجات تلك المادة الصناعية عالميًّا، بدأ العالم مؤخرًا يفطن لآثارها السلبية، لكونها تحاكي هرمون الإستروجين، ما يمكن له أن يؤثر على نظام الغدد الصماء في الجسم عند انتقال تلك المادة من العبوات إلى الأطعمة والمشروبات.

وسعى العديد من الأبحاث العلمية إلى ابتكار تقنيات يمكنها رصد مركبات البيسفينولات وتقدير كمياتها في منتجاتها المختلفة. إلا أن المتاح حاليًّا من هذه التقنيات غالي الثمن؛ إذ تدخل في تكوينه معادن كالبلاتين أو الذهب. ما استدعى الحاجة إلى البحث عن تقنيات أخرى رخيصة يمكنها أن تتولى أداء هذا الدور المهم، وبالمستوى ذاته من الدقة.

مؤخرًا، نجح فريق بحثي مشترك من جامعة عين شمس المصرية والأكاديمية الصينية للعلوم في توظيف تقنية تُعرف بـ”الدمغ الجزيئي” لإعداد مستشعر كيميائي رخيص الثمن، جرى تصنيعه من خامات الورق. والدمغ الجزيئي عبارة عن تقنية ترتكز على عمل ما يُعرف بـ”البصمة البوليمرية”، التي تستطيع التقاط مادة “البيسفينول 1” من بين المواد الكيميائية الأخرى المختلطة بها.

وكما يظهر من اسم تلك التقنية، التي جرى توصيفها في بحث نشرته دورية رويال سوسيتي أوف كيميستري “Royal Society of Chemistry” في عدد أكتوبر الماضي، فإنها تستخدم البوليمرات لطباعة بصمة خاصة بهذه المادة، تكون أشبه بالقفل الذي لا يُفتح إلا بمفتاح خاص به، بحيث يكون المستشعر شديد الحساسية للتعرف على هذه المادة عند اختلاطها مع أي مواد.

وتُستخدم المستشعرات -أو ما يُطلق عليه أيضًا تسمية «المجسات»- لتقدير تركيزات بعض العناصر والمركبات الكيميائية، في الأوساط البيئية والكيميائية والبيولوجية المختلفة كالدم أو الهواء أو الماء.

وتتنوع ما بين الكهربائية بقياس فرق الجهد، أو الضوئية التي تعطي إشارة لونية عند التعرف على العنصر أو المركب المراد الكشف عنه، كما توجد أنواع أخرى تعمل باستخدام دلالات أخرى مختلفة.

البحث عن وسيلة رخيصة

على الرغم من أن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) لم تحظر مركب “البيسفينول إيه” حظرًا كاملًا؛ إذ لا يزال الحظر محصورًا حتى الآن في المنتجات الخاصة بالرضع، بينما لا تزال تلك المادة مسموحًا باستخدامها في الحدود الآمنة في الصناعات الغذائية (50 ميكروجرامًا/كلج)، ما يقتضي إجراء اختبارات دقيقة لتقدير نسبتها بدقة شديدة في هذه المنتجات، وهو ما استوجب البحث عن وسائل سهلة ورخيصة تسمح بذلك.

يقول “أيمن حلمي كامل” -الأستاذ بكلية العلوم بجامعة عين شمس، والباحث الرئيسي بالدراسة- في تصريحات لموقع “العلم”: “في الوقت الحالي، نستخدم لهذا الغرض أقطاب استشعار تعتمد على ركائز صلبة من مواد عالية التكلفة، مثل الكربون أو الذهب أو البلاتين، ما يحد من الاستخدام الواسع لها”.

ويضيف: “يقدم بحثنا لأول مرة نوعًا من المستشعرات المعتمدة على ركائز ورقية رخيصة تعمل بتقنية الدمغ الجزيئي”.

وعن كيفية تصنيع المستشعر الجديد، يوضح “كامل”: “تم استخدام جسيمات نانوية من بوليمرات الدمغ الجزيئي تحتوي على بصمة البيسفينول إيه، وتم تحميل هذه المستقبلات على غشاء بوليمري تم تحضيره من مواد رخيصة”.

ويستطرد: يتم وضع الغشاء المحتوي على البصمة على دعامة موصلة كهربائيًّا ومصنعة من الورق المغطى بالكربون، ليتم قياس مقدار هذه المادة من خلال خلية جلفانية يكون أحد أقطابها المستشعر والقطب الآخر مرجعيًّا متناهي الصغر.

ووفق نتائج الدراسة، يقاس فرق الجهد بين القطبين، ويكون متناسبًا طرديًّا مع تركيز المادة في العينة التي يتم تحليلها، فكلما كان الجهد كبيرًا، كان ذلك مؤشرًا على التركيز العالي من المادة.

انتقائية عالية

وللتأكد من كفاءة المستشعر الورقي المقترح، يضيف “كامل”: “تمت مقارنته مع مستشعر كربوني زجاجي مرتفع الثمن قام الفريق البحثي بتحضيره، وأظهر المستشعر الورقي الرخيص نتائج متشابهة؛ إذ تمكَّن من استشعار المادة عند حد يصل إلى 0.15 ملي مول، وأظهرت المستشعرات المقترحة من الدراسة انتقائيةً جيدة على الفينولات الأخرى ومركبات شبيهة للبيسيفينول إيه”.

ولم يكتف الفريق البحثي بذلك، فمن أجل مزيد من الاطمئنان، جرت مقارنة نتائج المستشعر الورقي مع نتائج التحليل عبر جهاز كروماتوغرافيا السائل عالي الدقة (HPLC)، وهو أحد أجهزة التحليل الشهيرة في هذا الإطار، ولكنها مرتفعة الثمن مقارنة بالتقنية الجديدة المقترحة؛ إذ كانت النتائج متقاربة.

نتيجة مثالية ولكن

ويُثني “بدوي أنيس” -الباحث بقسم الطيف بالمركز القومي للبحوث- على ما توصل إليه المستشعر الجديد من نتائج؛ لكونه يتمتع بانتقائية عالية، إضافةً إلى رخص سعره، وإمكانية تصنيعه بسهولة دون الحاجة إلى تكنولوجيا عالية.

ولكن “أنيس” يتساءل عن فرص تسويقه في مصر، لا سيما أنه لا توجد حتى الآن أي محاذير على استخدام تلك المادة هنا، كما أنه يتساءل أيضًا عن الجهات التي ستكون معنية بتطبيقه، وهل هي جهات رسمية حكومية مسؤولة عن رقابة جودة الأغذية، أم يمكن أن يتم استخدامه منزليًّا لتقدير نسبة تلك المادة في زجاجات المياه والأغذية المعلبة، وأخيرًا فإن تحضير البوليمر استهلك عدة مواد كيميائية، وهو ما يثير تساؤلًا حول مدى توافرها محليًّا بما يسمح بالإنتاج التجاري.

يقول “كامل” في رده على هذه الاستفسارات: إنه ليس معنى عدم حظر تلك المادة محليًّا أن نتخلف عن مواكبة التطورات العالمية، التي تتجه مع الوقت إلى الحظر الكامل لتلك المادة، والتي تتكشف أخطارها مع الوقت.

ووفق دراسة كندية نشرت في ديسمبر 2018، وأجراها باحثون من جامعة كالجاري، فإن مادة “البيسفينول إيه” -حتى وان كانت في الحدود الآمنة- يكون لها تداعيات سلبية على الأجنة، إذا تناولت المرأة الحامل أي مواد غذائية أو مشروبات تحتوي على تلك المادة؛ إذ تؤدي إلى تغيير أنماط النمو الدماغي والسلوكي عند الأجنة في وقت لاحق من الحياة.

ويشير “كامل” إلى أن الفريق البحثي لا يستهدف الاستخدام المنزلي لهذه المستشعرات؛ لأنها تعتمد في القياس على فرق الجهد، وهو ما يقتضي وجود جهاز يقوم بذلك، ولكنه يستهدف الجهات الحكومية الصحية والبيئية.

ويوضح في هذا الإطار أن الحديث عن الجهات المعنية بتقدير تلك المادة ينصرف دائمًا على الجهات الصحية التي تقوم بتقدير النسبة في عبوات المياه والغذاء، مع أن الجهات البيئية معنية أيضًا بالقضية.

ويضيف: “مادة (البيسفينول إيه) تدخل في تصنيع عبوات البلاستيك والأقراص المدمجة وأقراص DVD، وهذه المواد عند تحلُّلها تنقل تلك المادة إلى التربة، ومن ثَم ستكون هناك حاجة إلى تقدير كمية هذه المادة فيها”.

وعن المواد الكيميائية المستخدمة في التصنيع، يؤكد “كامل” أنها رخيصة ومتوافرة محليًّا، ولا مشكلة في توفيرها حال تم الاتجاه إلى التوسع التجاري في إنتاج هذه المستشعرات.

المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى