لعب الذهب منذ فجر التاريخ دوراً بالغ الأهمية في حياة الأفراد والجماعات، ونظراً لندرته وخواصه الطبيعية المميزة اعتبر الذهب المقياس الدولي المعترف به عبر عصور التاريخ لتقدير قيمة المواد والسلع المتدولة في أنحاء العالم، حيث كان استخدام الذهب في سك النقود أهم حدث تاريخي عالمي أعقب اختيار المعادن النفيسة للتداول.
بدأ ظهور العملات الذهبية منذ عصر الفراعنة، وفي عصور الفرس والإغريق والرومان انتشرت وتوسعت حتى كان “الدينار” الذهبي العملة الرئيسية للأمبراطورية الرومانية قبل الإسلام، وما لبث أن أصبح الدينار عملة الدولة الإسلامية الناشئة التي تكونت فيما بعد.
وكان ضرب النقود في الحضارة الإسلامية شارة من شارات الحكم ومن اختصاص الخلفاء والأمراء الذي يمثلونهم، ولم يكن يسمح بضرب ولم يكن يسمح بضرب الدينار إلا في المدن الرئيسية والعواصم. أما الدرهم الفضي والفلس البرونزي فكان من ضرب الأمراء والولاة في مدن عدة .
وكان الختم على الدنانير والدراهم وعيارها يقوم به نفر قليل من الموظفين يعرف بعضهم باسم “المعدلين”، ويعرف البعض الآخر باسم “الطباعين” أو السباكين وكان يشرف عليهم متولي دار الضرب.
وكان الخليفة أو أمير الدولة يعهد في بعض الأحيان إلى القاضي بالإشراف على دار الضرب لضمان أوزان الدنانير وعيارها.. وفي هذا الوقت كانت دور الضرب مفتوحة للجميع، وكان من حق كل فرد أن يأتي بالذهب والفضة لتضرب له نظير رسم بسيط، وكان التجار والصرافون يتوسطون بين الناس وبين دار الضرب، فيأخذون من الناس المعادن الثمينة ويعطونهم ما ياويها في القيمة الاسمية للنقود.
وتعددت دور الضرب في طول البلاد الإسلامية وعرضها، حيث انشئت في مصر والعراق والشام والمغرب وإيران وقامت هذه الدور بتزويد العالم الإسلامي بما يحتاجه من عملات النقد على مر العصور ولقرون عديدة.
وقدمت اعطتنا المصادر التاريخية وصفاً دقيقاً لما كانت تقوم به دار الضرب من أعمال استخلاص الذهب والفضة وفي معرفة عيارها وكيفية اعداد سبيكة الدنانير والدراهم وصبها في القوالب الخاصة بها، والتي كانت تحمل اسماء الخلافاء والسلاطين وذكر التاريخ الذي ضربت فيه.
وكان في مصر داران للضرب، أحداهما في الإسكندرية، والأخرى في القاهرة، ويذكر أن الفاطميين انشأوا دار للضرب بحي القشاشين في القاهرة سميت بالدار الأميرية، وقامت بضرب سبائك ذهبية حملها “جوهر الصقلي” معه عند دخوله مصر، ضمن ثروات الفاطميين التي نقلوها إلى القاهرة وكانت تبلغ ألفاً ومائتي صندوق مملوءة بالدنانير المغربية، والتي تعذر نقلها فتم صهرها وجعلها سبائك على هيئة أحجار الطواحين.
وفي آواخر أيام الدولة الفاطمية نقصت كميات الذهب على أثر هبوط الصادرات المصرية بشكل ملحوظ بسبب غارات الصليبيين المستمرة ونهبهم للمدن الساحلية، وقد بذل الأيوبيون بعد ذلك جهوداً مضنية في سبيل إصلاح النقد ، وعرفت مصر الدراهم الفضية وزاد التعامل بها على حساب الدنانير الذهبية بالإضافة إلى النقود النحاسية التي عرفت باسم “الفوس”.
وفي العصر المملوكي، خضعت الدنانير لتغيرات متعددة من حيث العيار والوزن والحجم فضلاً عن التقلب في أسعارها وقيمتها، وفقاً لرغبة السلاطين وأحوال البلاد الاقتصادية، وغمرت الأسواق أنواع رديئة من الدراهم لا يزيد معدن الفضة فيها على الثلث، وانقطع ضرب الدراهم الفضية النقية بسبب تهريب الفضة إلى الخارج، وازداد بالتالي التعامل بالفلوس البرونزية.
وقد ظلت أحوال العملات النقدية في صعود وهبوط تبعاً لأحوال البلاد السياسية والاقتصادية حتى استولى العثمانيون على مصر.
وعلى الجانب الآخر، زاد استخدام الذهب كحلى وزينة للنساء في عصور الحضارة الإسلامية وهو أمر تعتنى به النساء منذ القدم ، مما جعل الصانع المسلم يتفنن في ابداع المصوغات المختلفة ، وكانت في القاهرة سوق تعرض فيه أنواع القلائد والأقراص والدلايات والعقود والأساور والتيجان والخواتم والمشابك والخلاخيل والسلاسل والآزرار، وكانت تسمى سوق “القفصيات”.
وعرف المسلمون فن الصياغة، واستطاعوا أن يجعلوا من كتلة الذهب أسلاكاً وصفائح رقيقة، وتتطلب صناعة الحلى ذوقاً فنياً ومهارة صناعية وخبرة واسعة في ميادين عديدة تتعلق بالكيمياء والصناعة والفن.
والذهب الخالص النقي رخو بدرجة لا يمكن معها استعماله إلا بعد سبكه مع فلذات أخرى ، ويعبر عن نقائه بعدد القراريط فيه ، فالذهب النقي يكون 24 قيراطاً، والقيراط هو معيار للنوع وليس للكمية ويمكن سحب أوقية الفلز النقي من الذهب إلى سلك طوله 50 ميلاً، بينما جرام الفضة يمكن سحبه إلى سلك طوله ميل تقريباً.
ويسمى المعدن المحتوي على الذهب “بالكهرمان” ولنه اصفر باهت ، ولا يعتري الذهب تغير أثناء تجمعه في رواسب الوديان ، ويرجع ذلك إلى عدم قابليته للذوبان وثقله النوعي الكبير.
وهناك طرق وأساليب مختلفة لصياغة الذهب والفضة، منها أسلوب طرق الأوراق الذهبية، وهي على نوعين أما الطرق بمطرقة للحصول على القطر المطلوب ثم القيام بتسويته، أو الطرق على مسند مجوف يعطي شكلاً فيه أو نصف قرص للوريقة أو الصفيحة المضروبة، ويكون المسند محدباً أو مفرعاً بحجم يلائم الشكل المطلوب.
وفي الوقت الحاضر يطرق الصائغ الأقراص الذهبية على كتلة معدنية عل شكل مكعب وعلى سطحها سلسلة من التجاويف المحدبة المختلفة الأحجام تسمى “الخشتق” وتلحم الوحدات المشكلة معاً فتعطي في النهاية الشكل المطلوب.
ومن طرق الصياغة أيضاً طريقة “كسر الجفث” فبعد الحصول على الأسلاك الذهبية الدقيقة يجمع الصائغ أجزائها بجفت له طرف يساعده على وضع هذه الأجزاء في الأماكن المخصصة لها بعد تثبيتها، وتصبح هذه الأجزاء كتلة واحدة بتعريضها للحرارة.
ومن الطرق كذلك “الشفشتي” ويطلق عليها طريقة المفرغ أو الخرم، وهي عبارة عن تشكل السلك الدقيق في شبك يشبه “الدانتيلا” ويستخدم الصائغ في هذه الطريقة أدوات يدوية دقيقة مثل السناديل والدقماق والماسك والمقص والجفت، ولإجراء عملية اللحام كان يستخدم منفاخ وسراج مع معدن الحشو.
وكانت للذهب استخدامات أخرى مثل تزيين أسقف المنشأت “كسقف القاعة الكبرى للبيمارستان في زمن المنصور قلاوون”، وكانت في العصر المملوكي قاعة تسمى “قاعة الذهب” ورد ذكرها في كتاب “بدائع الزهور” لابن اياس، وكانت إلى الغرب منها “قاعة الفضة ” وكان فيها أوان وأباريق وسيوف صنعت من الذهب والفضة، أو تم تزيينها بالذهب والفضة.
كما استخدمت أسلاك الذهب والفضة أيضاً في عملية النسيج والتطريز للملابس التي كان يرتديها السلاطين والأعيان في تلك العصور.
وهكذا كان استخدام الذهب في ضرب العملات وصياغة الحلى الذهبية، مؤشراً اقتصادياً للعصر الإسلامي، سواء في فترات ازدهاره التي كثر فيها استخدام الذهب، أم في فترات انتكاسته التي ندر فيها وأصبح أثراً بعد عين.