تدل أبحاث العرب في هذا المجال على طول باعهم, وأنهم طرقوه في وقت مبكر, وكانوا من الدقة فى تقدير بعض الأجسام تقديراً يطابق ما عليه الدراسات الحديثة أو يقترب منها كثيرا, واهتدوا فى أثناء ذلك إلى النسب الحقيقية بين وزن الاجسام المعدنية المختلفة. وبين وزن الماء, ودعاهم ذلك إلى وضع جداول دقيقة لبعض المعادن والأحجار الكريمة.
وإذا سرنا طلقا مع العلماء المسلمين الذين مارسوا هذه الأوزان بكافة معاييرها, فإننا نجد (أبا الطيب سند بن على), 218هـ, الذي أسلم على يد المأمون, وكان قيماً على الأرصاد, فإنه يعد أول من تصدى لهذا العمل.
وهذا (أبو سهل الكوهي) قد شارك في إجراء بعض التجارب على مراكز الاثقال, ولم يرتض بعض المسائل الفرضية المأثورة عن اليونان, ويقول في رسالة بعث بها لأبي اسحق الصابي: “وأما مراكز الأثقال فيبقى منها شئ يسير, حتى تتم ست مقالات متوالية..”, وانتقل إلى إيجاد مراكز ثقل القطاع من الدائرة, وفى ذلك يقول: ان مركز ثقل قوس أصغرهما, ومركز ثقل سطح أكبرهما يكون واحدا..”.
ثم جاء ابن الهيثم في كتابه (ميزان الحكمة) بمقالته (مراكز الأثقال) حيث بحث فى علاقة وزن الهواء الجوي بكثافة الهواء نفسه, وشرح نظرية تغير الجسم بتغير كثافة الهواء, وبحث في الأجسام الطافية في السوائل, ونسبة ما ينغمس منها, كما بحث فى المقالة عينها سقوط الاجسام وانجذابها نحو الأرض, وتحديد قوة انحدارها, وتغيرها تبعا لازدياد البعد عن الارض.
وقفى على أثره البيروني (442هـ), حيث مهر عالم الأوزان النوعية بجديداته التى لا تقل دقة عن الأوزان الحديثة, يقول: جاك ريسلر, لقد قاس البيروني (الأوزان النوعية), وذلك باستخدام مقياس كثافة من اختراعه الخاص أسماه (الميزان الطبيعي), ووضع على هذا المنوال المبدأ الذي يثبت أن الوزن النوعي لشئ ما يتناسب مع حجم الماء الذي يزيحه, وهو الذي أثبت ايضا – في ميدان أكثر اتساعا للعمل- حركة مياه الآبار الارتوازية عن طريق مبدأ الأواني المستطرقة”.
ولا شك أن البيروني يعتبر من السابقين فى ميدان تحديد (الثقل النوعي) لكثير من المعادن والأحجار تحديداً لا يكاد يختلف كثيرا – من حيث الدقة – عن التحديدات الحديثة لنفس المواد التي أتى عليها. الجدول التلاي يوضح المواد التي عالجها البيروني فى عصره, وما يقابلها من عمل العلماء المحدثين, ويتضح من خلاله مدى الدقة التي وصل إليها, وقد عرف البيروني الوزن النوعي لثمانية عشر عنصراً من الأحجار الكريمة والمعادن نذكر منها:
وعند تقدير هذه النتائج المدهشة التي توصل إليها أبو الريحان ينبغي أن نستحضر فى الذهن أن الفاً من السنين تفصل بين زماننا وزمانه, وان نذكر ان عدته من الأدوات والأجهزة, لم تكن لتقارن بما لدى علماء اليوم.., ومع ذلك فقد وصل أبو الريحان إلى نتائج تكاد تكون هى ما وصل إليه المحدثون.
هذا وقد ضمن أبو الربحان خلاصة ابحاثه فى (الثقل النوعي) كتابه المعنون (مقالة فى النسب التي بين الفلزات والجواهر فى الحجم), واستعمل فى تجاربه العلمية لاستخراج الثقل النوعي (آلته المخروطة) التي صنعها بنفسه”.
ثم جاء أبو الفتح عبد الرحمن الخازني الذي عاش بمرو خلال القرن السادس للهجرة, ويعد الاستاذ قدرى طوقان أول من كشف النقاب عن هذا العالم العربي الذي نسب إلى الأندلس, تارة, وإلى مصر تارة أخرى ولاذي نحله بعض الدارسين مؤلفات ابن الهيثم تارة ثالثة, بل اعتبروه انه هو: الحسن بن الهيثم.
وللخازني كتاب (ميزان الحكمة), وقد سبق فيه توريشللي إلى بحث وزن الهواء وكثافته, والضغط الذي يحدثه, ويقول طوقان, ان من بين المواد التي تناولها البحث, مادة الهواء ووزنه, ولم يقف الامر عند هذا الحد, بل اشار إلى ان للهواء وزناً وقوة رافعة كالسوائل, وان وزن الجسم المغمور فى الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي, وان مقدار ما ينقصه من الوزن, يتبع كثافة الهواء.., وبحث الخازني للكثافة جعله يتطرق إلى كيفية غيجادها للأجسام الصلبة, والسائلة, واعتمد فى ذلك على كتاب البيروني وتجاربه فيها.., واخترع ميزاناً لوزن الاجسام في الهواء, وفي الماء, وكان لهذا الميزان خمس كفات تتحرك إحداهما على ذراع مدرج.
وفى ذلك يقول العلامة بلتون: ” ان العرب كانوا يعرفون ثقل الهواء, ولهم وسائل متقنة, وموازين دقيقة لاستخراج الوزن النوعي, لأكثر السوائل والجوامد التي تذوب فى الماء, ولهم في ذلك جداول على النحو المستعمل الآن”.
وقد كان لدى العرب موازين من الدقة والتنوع بمكان كبير, فقد وزن الأستاذ (فلندرز بترى) ثلاثة نقود عربية قديمة, فوجد ان الفرق بين أوزانها جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام, ويعقب هذا الدارس على ذلك بقوله: انه لا يمكن الوصول إلى هذه الدقة فى الوزن إلا باستعمال ادق الموازين الكيمياوية الموضوعة فى صناديق من الزجاج, حتى لا تؤثر فيها تموجات الهواء, وبتكرار الوزن مراراً, حتى لا يبقى فرق ظاهر فى رجحان أحد الموازين على الآخر, ولذلك فالوصول إلى هذه الدقة لما يفوق التصور, ولا يعلم أن احدا وصل الى دقة فى الوزن مثل هذه الدقة”.
ومن هنا نعلم ان العرب كان لهم اهتمام بالحركة والسكون, ومركز الثقل, وجر الاثقال بالقوة اليسيرة, وقد الفوا في ذلك مؤلفات ذات قيمة, نذكر من ذلك مؤلفات ثابت بن قرة, والكوهي, والفارابي, وابن سينا, وقسطا بن لوقا, وكل ميزان يتركب من عمود أو قصبة, يلف حول محور عليه رمانة, وله كفة, وقد يكون المحور مر قوما, ومن هذا النوع: الميزان العادي, والميزان القديم, أو الروماني المسمى القرسطون, وميزان اسمه القبان أو الكفان, ومن يقوم به يسمى قباني, ومنه أنواع: الرومي والقبطي, ولديهم تعابير كثيرة عن الموازين لا يوجد لها مثيل في أي لغة أخرى: كالقناطر والأرطال, والمثاقيل والدراهم.
ومن العلماء المسلمين الذين أكثروا من وضع الجداول, واهتموا بها أيما اهتمام عبد القادر الطبري فى كتابه (عيون المسائل..), فقد سرد فيه انماطا من الجداول التى تعنى بالثقل النوعي: للذهب والفضة, والرصاص, والنحاس والحديد, والزئبق, ولبن البقر والزيت, والياقوت الأزرق, والياقوت الاحمر, والزمرد, والعقيق, والماء والزجاج..