العلوم والرياضيات هي التي ستحدد من سيتبوأ المكانة الرفيعة في السباق العالمي نحو القمة.. وفي حين يبدو العالم منشغلاِ بالحروب والصراعات السياسية والعسكرية فإن تنافساً سلمياً يدور بين عدد محدود من الدول للاستحواذ على كل ما له علاقة بالعلوم والرياضيات لأن مستقبل العالم وتنافسيته ومجالات الريادة فيه يصنعها العلماء.. وخصوصاً في مجالات العلوم الطبيعية والرياضيات.
وقد دخلت الصين والهند «على الخط».. وصارتا مصدر خوف للدول الصناعية الكبرى التي ظلت تحتكر الريادة في الاختراعات والاكتشافات والإنتاج المتقن.
وقد أصبح من الأمور العادية أن نقرأ بشكل متكرر في التقارير الصادرة من أمريكا عن التحدي الذي أصبح كل من الصين والهند يمثله بالنسبة لأمريكا.. فالأمريكيون لا يخجلون من الاعتراف بهذه الحقيقة، وهم يقولون- بكل صراحة- إن الصين والهند ستكسبان المنافسة إذا لم تكرس الولايات المتحدة كل جهودها وتركز على البحوث والتطوير وتشجيع الشباب الأمريكي على دراسة العلوم والرياضيات. وفي إحدى الإحصائيات المنشورة مؤخراً فإن مائة وعشرة مصانع للكيماويات في الولايات المتحدة قد أقفلت أبوابها في عام ,2004. وفي الوقت ذاته ذكرت الإحصائية أنه بين كل 120مصنعاً رئيسياً جديداً للكيماويات في العالم تستحوذ أمريكا على مصنع واحد بينما نصيب الصين هو خمسون مصنعاً من هذه المصانع الكبرى الجديدة! ولهذا جاء في تقرير حديث للأكاديمية الوطنية الأمريكية أنه ما لم تسارع الحكومة الأمريكية إلى اتخاذ تدابير سريعة فإن أمريكا ستفقد ميزتها التنافسية في الرياضيات والعلوم أمام الهند والصين حيث يتميز تدريس هاتين المادتين في البلدين المذكورين بالجودة النوعية وتتميز عمالتهما الوطنية بانخفاض التكاليف!
هذا يعني أن مثل تلك الدول هي التي تستقطب الاستثمارات لأن البنية العلمية الأساسية موجودة، والقوى البشرية المتعلمة ذات التكلفة المنخفضة موجودة أيضاً.
وقد بدأ الكثير من الشركات الأمريكية والأوروبية يتوسع في افتتاح الفروع في الهند وفي الصين.. ولن يكون هذان البلدان في المستقبل القريب مجرد أماكن للإنتاج فقط بل للاستهلاك أيضاً وذلك بسبب اتساع أسواقهما والكثافة السكانية الكبيرة فيهما.. وهذا ما بدأ يحدث بالفعل في السنوات الأخيرة.
من أجل ذلك أعلن الرئيس الأمريكي مؤخراً عن خطة كبرى لتعزيز ودعم تدريس الرياضيات والعلوم في المدارس الأمريكية.. ومن المتوقع أن يصل هذا الدعم إلى حوالي ستة مليارات دولار في ميزانية العالم المالي 2007م.. كما انه من المتوقع أن يصل الإنفاق على البحوث التطويرية وتشجيع المبادرات وتطوير التعليم في الرياضيات والعلوم إلى مائة وستة وثلاثين مليار دولار على مدى السنوات العشر القادمة!
ويبدو الحديث عن تطوير تدريس العلوم والرياضيات في أمريكا هذه الأيام حماسياً لدرجة الهوس.. ويستنتج المتابع أن هناك شعوراً لدى الأمريكيين أن مستقبل أمتهم معلق على تجويد الرياضيات والعلوم. ولهذا نجد الرئيس الأمريكي يمازح بعض التلاميذ أثناء زيارة قام بها لإحدى المؤسسات التعليمية مؤخراً ويقول إن البعض منكم ربما يتمنى أن تزول المنافسة العالمية بين الدول في مجالات التقدم، لكن هذا لن يحدث، ونحن أمام خيارات يجب أن نحدد ما نريده منها: هل نريد أن نتراجع، أن نصبح انعزاليين، أن نهتبل الفرصة القائمة ونبني مستقبلاً مشرقاً.. وهذا لن يتحقق إلا عن طريق إيجاد قوى عاملة أمريكية متميزة في مجال الهندسة والعلوم والفيزياء.
وما يقوله القياديون في أمريكا لا يدخل في باب الخطب الحماسية وإنما أصبح خططاً ترصد لها الميزانيات.. وهم الآن يتحدثون ليل نهار عما صار يعرف ب «مبادرة التنافسية الأمريكية».. وهي الخطة التي تتمحور حول تطوير تدريس العلوم والرياضيات لتخريج أجيال قادمة من العقول الأمريكية التي تقود وتسيطر على العالم.
في خضم هذه التغيرات الكبيرة والجدل الاجتماعي الإيجابي الذي تشهده المجتمعات التي تقف في مقدمة الصفوف في المنافسة العالمية يتساءل المرء عن نصيب مجتمعاتنا النامية من ذلك كله.. ففي أحيان كثيرة نبدو منهمكين في صراعاتنا الصغيرة حول مسائل لا قيمة لها من منظور التقدم الفعلي.. وأحياناً نبدو كما لو أننا نريد «اختراع العجلة من جديد» حين نعود لمناقشة مسائل أصبحت في حكم المنتهي والمحسوم في التجربة البشرية التاريخية بينما نضيع الوقت في النقاش البيزنطي العقيم في تفاصيلها التي اقل ما يمكن أن يقال عنها إنها ساذجة وليست ذات شأن.
نحن لدينا مؤسسات واعدة ومبادرات جيدة.. لكن الزمن لا ينتظر. ومن المحبط أن نقف مترددين أحياناً في تفعيل هذه المؤسسات والمبادرات.. أو أن نمشي خطوة إلى الأمام ثم ننكص ونعود خطوة أو خطوتين إلى الخلف.. ففي عالم اليوم تتصارع العقول للاستحواذ على المواقع المتقدمة.. ولا مكان للمترددين.