ظل الإنتاج التكنولوجي الإنساني عبر التاريخ يتوازى بنسب مقبولة مع الإنجازات التكنولوجية، فالمسافة التي أحدثها اختراع السيف المصقول، والمسافة التي أحدثها اختراع المنجنيق، وحتى تلك المسافات التي ارتبطت بتشييد المدن والصروحات والمسارح والميادين العامة وحتى اختراع الحبر والورق. كل هذه المسافات ظلت بمعطياتها الإنجازية تقترب وتجاور المسلكيات الإنسانية، ولا تحدث فجوة حضارية مرعبة مثل تلك الفجوة التي أحدثها عصر النهضة، وفعل تسمين الآلة التكنولوجية ابتداء بالقطارات وآلة الطباعة والسيارات والطائرات، مروراً بكل المنجزات التكنولوجية العسكرية من صواريخ عابرة للقارات، وطائرات من دون طيار، وقنابل ذرية، واستعدادات دائمة لحروب كيميائية جرثومية.
هذا عداك عن الوله الانساني بالتطلع إلى الكواكب، واحتلالها بالحضور الكوكبي للإنسان، والركض المزمن خلف انتاج المركبات التي تستعد للذهاب الى القمر، وإلى الكوكب الاحمر المريخ، وليس بعيداً عن هذا الرجال الأربعة الذين منهم الاميركي والياباني والصيني والروسي الذين دخلوا قبل أيام مركزاً روسياً، تم فيه توفير المناخ المشابه لكوكب المريخ تماماً، على أن يقيموا فيه لمدة 500 يوم.
إن المراقب لهذه الانجازات البشرية في مجال التقدم التكنولوجي المدهش، لا بد أن يصاب بالدهشة وهو يرى النظام السياسي الأرضي القائم في الجغرافيا السياسية العالمية، وهو يهجر هذه المنجزات ويعمل على تسخيرها لمصلحة مرجعياته التاريخية المعرفية المتخلفة، والتي سبق للبشرية أن سددت فواتيرها الدموية في أكثر من مفصل، وفي أكثر من قرن عبر التاريخ الانساني بمجمله.
وهكذا صار وكأنه حالة من اليقين المزمن أن الحياة فوق سطح الارض ليست محتملة من دون أن يكون هناك أعداء، فقد كان على العالم أن يسدد فواتير وبُعيد عصر النهضة بقليل فواتير الشهية الاستعمارية لبعض الدول التي بطشت بالديموغرافيا الإنسانية لتحدث الحروب المتتالية، والاحتلالات لتثبيت فكرة لاحقة لها علاقة بالاستقلال والنشيد الوطني المغمس إيقاعه بدم الشعوب. وهناك الحرب العالمية الاولى وشقيقتها الكارثية الحرب العالمية الثانية التي حرقت مدن العالم ودمرتها، وهناك ايضاً الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والمنظومة الاميركية والحلف الاطلسي، التي كلفت دول العالم المليارات من الدولارات الغبية، والحرب البلاستيكية التي كانت تخلف الثورات الفاشلة، والأنظمة الدكتاتورية القامعة لشعوبها.
وحينما تفكك الاتحاد السوفييتي وتشظى إلى دويلات، وحدث الفراق الإيديولوجي، نهض حبر «هينتغتون» الداعي الى صراع الحضارات معلناً وسط هذا الفراغ العدواني الارضي، أن العدو الجديد للحضارات الانسانية هو الإسلام! ومن هنا بدأ العالم الاشقر المتفوق تكنولوجياً بالتفكير في إنجاز العدو الجديد ومحاربته، حتى أحدث يقينه العدواني تدمير برجي نيويورك، حيث صارت فكرة مواجهة الاسلام والحرب عليه مقبولة وقابلة للتطبيق ليتم احتلال العراق واحتلال أفغانستان.
إن مجمل هذه المعطيات العدوانية التي تحدث على سطح كوكبنا الأرضي لا تتناسب مع تكنولوجيا متقدمة صنعها الإنسان بمهاراته الذهنية وكد عليها العلماء في المختبرات المطلسمة، وصارت هناك فجوة مرعبة بين ما هو منجز تكنولوجيا، فجوة قد تحول منتجاتنا التكنولوجية إلى معدن بارد، يتكوم أمام كهفنا البشري الأول الذي اشتاق كثيراً إلى وحشيتنا الاولى، ونحن نبحث عن الطريدة، لنعود ونرسم احلامنا الساذجة على جدرانه.
* خليل قنديل
نقلا عن الإمارات اليوم