تشجع التحديات التي تلاقيها دول العالم أجمع اليوم في مجال الطاقة، الاتجاه إلى إيجاد بدائل لتقليل فاقد الطاقة، أو لإيجاد مصادر أخرى لإنتاجها، وبخاصة بعد نضوب البترول والفحم، وواحدة من المحاولات في هذا الصدد هو ما يعرف باسم “المنازل الخضراء”، والتي تعتمد على نمط بناء معين أكثر احتراما للبيئة، واستخدام مواد بناء، أو زراعة أسطح المباني، وغيرها من الوسائل الصديقة للبيئة والموفرة للطاقة.
وحسب ما ذكره موقع وزارة الخارجية الأمريكية عن نمط البناء التي تتوجه الولايات المتحدة إليه في هذه الأيام، فيمكن لمواد البناء أن تفعل أكثر من مجرد رفع مبنى أو جعله يبدو جميلاً. فمواد البناء، مثلها مثل مستخدميها من البشر، يمكنها أن تقوم بمهمات متعددة في نفس الوقت.
والمادة المسماة “سمارت راب” أو “الدسار الذكي”، التي لن تنزل إلى الأسواق قبل سنوات، مصممة كمادة بناء لا توفر ستاراً واقياً فحسب بل وتتحكم أيضاً بالمناخ داخل المبنى وبالإنارة والطاقة. وتقول شركة الهندسة المعمارية التي اخترعت هذه المادة الرقيقة جداً، وهي شركة كيران تيمبرلايك أسوشييتس، إنها تصنَع من نفس البلاستيك أو البوليستر المستخدم لصنع زجاجات المشروبات الغازية ويتم توضيبها على شكل لفّات.
وتُشكِّل الطبقة التحتية المصنوعة من غشاء البوليستر طبقة متينة إلى حد كاف للحماية من الرياح والأمطار، كما يقال إنه يمكنها أيضاً الصمود في وجه إعصار من الفئة الثالثة. وللتحكم بمناخ المبنى، تطمر في طبقة من الغشاء كبسولات رقيقة جداً من مواد يمكنها التغيّر حسب المراحل، لكي تقوم بامتصاص الحرارة خلال الطقس الحار وإطلاق الحرارة خلال الطقس البارد.
أما للإنارة، فتَستخدم مادة “سمارت راب” تقنية الدايود الضوئي العضوي، أي جزيئات عضوية توضع على الغشاء البلاستيكي فتبعث ضوءاً لدى وصلها بالتيار الكهربائي. أمّا الطاقة الكهربائية فتُستمد من أشعة الشمس، حيث تمتصها الخلايا الضوئية العضوية المطمورة في غشاء “سمارت راب” فتتحول إلى طاقة.
سيأتي يوم تصبح فيه مصابيح الإنارة في ذمة التاريخ. فالمصابيح المتوهجة التي اخترعها توماس أديسون لا تحول أكثر من 5 بالمئة من الطاقة الممتصة إلى ضوء، وتُطلق ما تبقى كحرارة. أما المصابيح الفلورية فقد تفوق كفاءتها كفاءة المصابيح المتوهجة بحوالى أربع مرات. لكن هناك خيارات أخرى أفضل منها أيضاً سوف تتوفر قريباً.
وقد أصبحت الدايودات الضوئية والمشابهة للرقائق قيد الاستعمال منذ فترة في مصابيح الإنارة اليدوية وفي المصابيح الومّاضة الخلفية للسيارات، وهي لا تستهلك إلاّ جزءاً بسيطاً مما تستهلكه المصابيح المتوهجة. وقد قام مركز أبحاث الإنارة في معهد بوليتكنيك رنسيلار في نيويورك بتركيب شبكة أسلاك منخفضة الفولتية في جدران وسقف غرف اختبار معينة. وتستطيع لوحات الدايودات الضوئية المطمورة في بلاط الغرف أن تدخل بسرعة لترتبط بشبكة توزيع الطاقة في أي مكان على الأسطح. ويستطيع نظام يتحكم به الكمبيوتر تشغيل لوحة الدايودات وإقفالها وتعديل شدة إنارتها ولونها.
وقد ذهبت الشركة الهندسية “كنيدي وفيوليتش آركيتكتشير” القائمة في بوسطن حتى إلى أبعد من ذلك. فالمصمّمون لدى الشركة يعكفون حالياً على العمل على خيوط تطمر فيها دايودات ضوئية يمكن نسجها داخل أغطية الجدران أو أثاث المنزل.
* علم المحاكاة الإحيائي أو البيولوجي
تمكنت الكائنات الحية، خلال أربعة مليارات سنة من التطور، من ابتداع الكثير من التصاميم البارعة. وقد بدأ المهندسون المعماريون بالعودة إلى الطبيعة للبحث عن مفاتيح تحقق استمرارية المباني.
ولعل أشهر المباني المستوحاة من الطبيعة الحية هو مركز التسوق ومبنى المكاتب إيست غيت (البوابة الشرقية)، القائم في هاراري في زيمبابوي. فقد استوحي التصميم من تلال النمل الأبيض الأفريقي، التي يحافظ فيها النمل على درجة حرارة ثابتة تبلغ 87 درجة فهرنهايت (لحفظ الفطر الذي يجمعه النمل كغذاء) وذلك عن طريق فتح وإغلاق منافذ يخرج عبرها الهواء الساخن.
ولا يوجد في مبنى إيست غيت نظام لتكييف الهواء بالشكل المعتاد. بل تقوم مراوح كبيرة خلال الليل بسحب الهواء الخارجي البارد عبر فراغات مبنية بين أرضيات الطوابق. وخلال النهار تقوم مراوح أصغر بدفع الهواء الساخن الخارجي عبر نفس الفراغات، حيث تساعد الخرسانة الباردة على تحقيق اعتدال درجات الحرارة. وعندما يسخن الهواء يرتفع عبر 48 قمع قرميد مستدير الشكل إلى سطح المبنى. ويدور الهواء النقي في المبنى مرتين في كل ساعة خلال النهار. ويقال إن المبنى لا يستهلك إلاّ عشرة بالمئة من الطاقة التي تستهلكها عادةً المباني التقليدية من نفس الحجم.
وماذا عن مواد البناء المستوحاة من الطبيعة؟ يدرس المهندسون المعماريون والمهندسون الآخرون حالياً صدفة المحارة التي لا يمكن تدميرها تقريباً.
تُنمي المحارة نفسها بتجميع جزيئات من كربونات الكالسيوم على شكل صفائح وطبقات، بحيث تضيف كل جزء جديد من الطبقات عند زاوية قائمة (من 90 درجة) إلى الجزء المكتمل. وفي تركيب كهذا يصبح من الصعب على أي تشقق أن يتمدد، إذ تتبدد قوة أي صدمة أثناء انتقالها من صفيحة إلى أخرى ومن طبقة إلى أخرى.
أمّا لاستلهام الطبيعة في مجال التكيف مع تغيرات درجات الحرارة، فمن الممكن تفحص كوز الصنوبر المرن. فهو يكون مقفلاً تماماً إذا كان الطقس بارداً وينفتح لإطلاق البذور عند ارتفاع درجة الحرارة. ويفتش الباحثون عن مواد تغيّر شكلها حسب مستوى الرطوبة في الهواء، بحيث تنفتح لقذف الهواء الرطب الساخن إلى الخارج وتنغلق لمنع الهواء الرطب الساخن من النفاذ إلى الداخل.
لم يعد من الضروري في هذه الأيام أن تصدر جميع الأفكار الجيدة في مجال تصميم المباني عن مهندس معماري واحد أو شركة هندسة معمارية واحدة. فمنذ شباط/فبراير، 2007، بدأت المنظمة الخيرية “الهندسة المعمارية للبشرية” تتيح لأي كان المشاركة بالأفكار مباشرة على الإنترنت عبر شبكة الهندسة المعمارية المفتوحة، وذلك بهدف التخفيف من الأزمات الإنسانية عقب الكوارث ومساعدة المجتمعات الفقيرة في جميع البلدان، المتطورة منها والنامية.
وتعمل المنظمة على النحو التالي: يستطيع المصممون والفعاليات الأهلية في المجتمعات المحلية والموظفون الحكوميون، وأي فرد آخر لديه أفكار حول إنشاء مبنى مستدام، عرض هذه الأفكار مباشرة على خط الإنترنت. كما يمكن لهؤلاء مراجعة الأفكار التي نشرها آخرون.
كانت منظمة “الهندسة المعمارية للبشرية” قد أنجزت بعض الأعمال الجيدة قبل إطلاق شبكة الهندسة المعمارية المفتوحة. ذلك أنها كانت قد ساعدت في تصميم مباني مقاومة للزلازل في تركيا وفي تصميم منازل للاجئين في أفغانستان. كما ساعدت هذه المجموعة في إعادة بناء أماكن دمرتها الكوارث الطبيعية، مثل بعض المناطق في الهند وسيريلانكا بعد التسونامي في العام 2004، وأماكن على ساحل خليج المكسيك الأميركي بعد الإعصار كاترينا في العام 2005.
وبعد أن شعرت المنظمة بالإحباط في بعض مشاريعها المبكرة هذه لعجزها عن تشاطر المعرفة والخبرة، خرج مؤسسوها بفكرة إنشاء موقع المصدر المفتوح على شبكة الإنترنت.
وقد ذهبوا بفكرتهم هذه إلى أبعد من ذلك خلال أيلول/سبتمبر المنصرم، حين أطلقت شبكة الهندسة المعمارية المفتوحة مشروع التحدي الهندسي المعماري المفتوح، الذي يسعى إلى تحقيق هدف عام هو إيصال شبكة الإنترنت إلى نصف سكان العالم بحلول العام 2015.
أمّا هدف التحدي الآني فيدعو إلى تقديم خطط تُركز على احتياجات ثلاث مجموعات سكانية في مجال الإنترنت: المجموعة الأولى هي تعاونية منتجي الشوكولاته من السكان الأصليين في الإكوادور، والثانية مجموعة من الشباب في أحد الأحياء الفقيرة جداً في كينيا، والثالثة مجموعة من العائلات في منطقة ريفية نائية في نيبال تفتقر إلى الرعاية الصحية. وسوف يتم بناء التصميم الفائز لإحدى هذه المجموعات الثلاث.
و”عن طريق بناء التصميم الفائز، أو التصاميم الفائزة”، قال كاميرون سينكلير، المدير التنفيذي لمنظمة “الهندسة المعمارية للبشرية”، في بيان صحافي: “إننا، بتشييدنا مبنى بناء على التصميم الفائز، لا نقوم بمجرد تحديد الفائز، بل نساعد الناس أيضاً في المجتمعات التي تفتقر إلى الخدمات على العيش والنمو من خلال تمكينهم من الوصول إلى التكنولوجيا واستخدامها.”
إن فكرة أسطح المباني الخضراء ليست في الواقع فكرة جديدة. فالزراعة على أسطح المباني قديمة قدم حدائق بابل المعلقة، على أقل تقدير.
وقد أصبح من الشائع في بعض أنحاء أوروبا في العقود الأخيرة، إنشاء أسطح خضراء تغطيها النباتات بدلاً من مواد البناء مثل الألواح أو البلاط. ولكنها ما زالت أمراً جديداً بالنسبة لمعظم بلدان العالم.
وقد يؤدي استخدام أسطح المباني الخضراء على نطاق أوسع إلى تخفيف بعض مشاكل المدن الحديثة. فهي تقلل من جريان مياه الأمطار في الشوارع وتصفّي مياه الأمطار من الملوثات العالقة فيها. كما تقلص الأسطح الخضراء استهلاك الطاقة. فالمباني ذات الأسطح الخضراء تحتاج إلى تدفئة أقل في الشتاء وإلى تبريد أقل في الصيف مما تحتاج إليه المباني ذات الأسطح التقليدية. وإذا استخدمت على نطاق واسع قد تصبح قادرة على خفض ما يسمى “بأثر سخونة الجزر المدينية” في مدن بأكملها.
وتشجع بعض المدن الأميركية الآن على استخدام أسطح المباني الخضراء كجزء من سياستها العامة. فمبنى بلدية شيكاغو يغطيه سقف أخضر. كما قامت الجمعية الأميركية للمهندسين المعماريين (ASLA) باستبدال سطح مبنى مقرها العام القديم في العاصمة واشنطن بسطح أخضر. وتقول المجموعة إنه بين تموز/يوليو، 2006، وأيار/مايو، 2007، “منع السطح الأخضر انسياب كمية 27 ألفاً و500 غالون من مياه الأمطار، أي 75 بالمئة تقريباً من المياه التي وصلت إلى السطح، من الجريان ودخول نظام صرف مياه الأمطار في العاصمة واشنطن، الذي يقوم بما يفوق طاقته … كما خفف السطح الأخضر في مبنى جمعية المهندسين المعماريين درجة الحرارة بحوالي 32 درجة في الصيف بالمقارنة مع مبنى مجاور سطحه من القار.”
تتطلب أسطح المباني الخضراء دعماً إنشائياً قوياً لتحمّل الحمل الثقيل الذي ينتج عن العواصف. ولهذا تستعمل في الأسطح طبقات مترابطة فوق بضعها البعض مؤلفة من أغشية مانعة لتسرب المياه، يضاف إليها حواجز من جذور النباتات لمنع تسرب المياه.
وتبنى أسطح المباني الخضراء بأعماق مختلفة. فأسطح المباني الخضراء الواسعة جداً لا تَستخدم سوى سنتيمترات قليلة من المواد اللازمة لنمو المزروعات، وهي عادة مزيج من الصلصال القابل للتمدد والقليل من التراب العضوي. وتزرع فيها النباتات التي تنمو في منحدرات الجبال مثل عشبة السيدوم. أما الأسطح الخضراء الكثيفة فتستعمل تربة عميقة وأنظمة ري لنمو الأعشاب والشجيرات، وحتى الأشجار.