غيب الموت أمس السبت 16/9/2023 المفكر والمترجم العلمي الكبير شوقي جلال، أحد أعلام الترجمة العلمية فى وطننا العربي, مواليد 30 أكتوبر عام 1931، القاهرة، حاصل على ليسانس كلية الآداب، قسم فلسفة وعلم نفس، جامعة القاهرة، عام 1956. وحاصل على جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
قضى المترجم الكبير شوقي جلال سنوات عمره عاكفًا على ترجمة الكتب العلمية ومنها: “بنية الثورات العلمية”، تأليف: توماس كون، سلسلة عالم المعرفة، الكويت. و”تشكيل العقل الحديث”، سلسلة عالم المعرفة، الكويت. و”الاقتصاد الكويكبي قي العصر الأسيوي”. و”السفر بين الكويكبات”. وسواها، ساءه أن يرى قومه وبنى جلدته لا يزالون فى مؤخرة الركب الحضارى. ويرى أن العرب لا يزالون أسرى كون قديم تمامًا أشبه بعالم الأساطير، ولكنه لم يفقد الأمل بعد فى التقدم.
بيّن “شوقى جلال”, حال الترجمة في الوطن العربي واستند تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي على كتابه “الترجمة في العالم العربي، الواقع والتحدي” كأحد المصادر المهمة للمعلومات في فقرة الترجمة.
فى حواره الذي أجرته معه صحيفة الأهرام القاهرية, يوم 3 سبتمبر 2021 السنة 146 العدد 49214 قال “شوقى جلال” صراحة ودون مواربة: “لابد من التخلى عن الاقتداء بالسلف وتأكيد أننا فقهاء عصرنا”!. كما تحدث جلال عن العوامل العشرة التى تسببت فى نجاح, اليابان والصين وسنغافورة وكوريا فى تجربة الحداثة, واوضح ان المثقف عندنا – نحن العربي- مسئول عن التخلف, مؤكدًا انه عندما يتعطل الفعل الحضارى تكون السيادة للسلف ولثقافة “من فات قديمه تاه”.
لا يزال “جلال” مشغولاً بسؤال الهوية، ولا يزال قابضاً على الأمل، مؤكدًا أن السبيل الوحيد لتجنب الجمود هو الفعل المجتمعى الهادف لإنتاج الوجود، واستبدال ثقافة الفعل بثقافة الكلام!
Table of Contents
أهمية الثقافة
وحول أهمية الثقافة فى حياة الشعوب يقول الاستاذ شوقى جلال: “تتفق آراء أهل الفكر وعلماء الاجتماع والحضارات وغيرهم على أن الثقافة مهمة، بل ربما تكون هى العامل الأهم فى حركة تاريخ المجتمعات، لذلك من المفيد النظر الى المسألة نظرة تاريخية وبيان حركة التناقضات فى مسيرة المجتمعات، والسؤال عن ماهية الثقافة والقيم الثقافية السائدة، أى السؤال عن البنية الذهنية الفكرية والثقافية”.
يستطرد “وحيث إن الثقافة تتغير فى الزمان والمكان، لذا يجب أن نضع فى الاعتبار عامل الزمان وعامل الفعالية المجتمعية لإنتاج الوجود، ماديا ومعنويا ونحن نبحث نقديا واقع المجتمعات وتأثير الثقافة”.
“وطبيعى أن ثمة فارقًا بين المجتمعات العربية الإسلامية فى عصر صدر الإسلام وحتى القرن الـ 14، ناهيك عنها قبل الإسلام، وبين هذه المجتمعات ذاتها وما طرأ عليها من تحولات ثقافية جذرية فى إطار سياق عالمى ونشوء عصر الصناعة”.
يضيف “بداية.. القول بثوابت الثقافة العربية الإسلامية قول يجافى العلم، ويتعارض مع النظرة التاريخية لتطور المجتمعات، ومن ثم تطور الفكر والثقافة.
مع توسع جيوش العرب فى المجتمعات المجاورة نشأ واقع جديد للتفاعل الحضارى بين هذه البلدان التى كانت محيا من الثقافة الهللينية الجامعة لثقافات وحضارات هذه المجتمعات فى تفاعل مع الثقافة الإغريقية، ولكنها أضحت تحت سلطة إسلامية.
وبدت الحاجة ملحة لفهم وتأويل العديد من القضايا الفكرية الخاصة بالعقيدة الجديدة فى ضوء الخلفية الثقافية الهللينية، وتجدد النشاط العلمى الموروث عن هذه المجتمعات، وتأسس واقع «كوزموبوليتانى» وقضايا فكرية مثل: حرية إرادة الإنسان، فعالية الإنسان، الله، واقترن هذا بنشء مؤسسى واسع الترجمة، والأهم الحوار بشأن دور العقل.
وطبيعى أن كانت الساحة تحتدم بالحوارات السجالية بين منهج دعاة النقل / فقهاء اللغة والدين، وعندهم أن مصدر المعرفة الرواية أى النص وبين دعاة المنطق العقلى الذى يؤكد أن مصدر المعرفة الواقع والكون والمنطق الذى يعتمد السببية لإقامة الدليل والبرهان، وكان هذا جديدا على العقل العربى، ورفضه عقل الصحراء، حتى إن البعض مثل أبى حيان التوحيدى رأى أن النحو هو منطق العربية، وأن المنطق الفكرى هو نحو اللغة اليونانية.
ومع غزو المغول الذين أسلموا بعد ذلك، وانهيار بغداد صعد التوجه السنى الحنبلى، واغتال عقل الصحراء العقل الحضارى الجديد، وأجمع أئمة السنة على وقف الاجتهاد أى تعطيل دور العقل، وغاب العقل الفاعل الذى يعتمد السؤال عن الأسباب”.
من أين نبدأ؟
من أين نبدأ لو أردنا استئناف نهضتنا؟
من رد الاعتبار للعقل العلمى المتمثل فى حضارة العصر فى مناخ من الحرية، وعادة النهم المعرفى وفضيلة الانفتاح السمح على كل العقول والثقافات، مع قبول التحدى والمنافسة فى الإبداع العلمى والثقافى، وكذا الفصل بين سلطان رجال الدين، إذ لهم ساحتهم لقضايا الدين، واستقلال العقل العلمى بشئون الدنيا.
وحشد الجهود السياسية والإعلامية والعلمية والتعليمية والفنية لهذا الهدف، وغرس القيم الثقافية العلمانية، والتخلى عن الاقتداء بالسلف وتأكيد أننا فقهاء عصرنا”.
برأيك لماذا لم يؤت المشروع الحداثى العربى أكله؟ ولماذا فشلنا فيما نجح فيه أصحاب ثقافات الشرق الأقصى؟
يقول شوقى جلال “أولا لم يكن هناك مشروع حداثى عربى، وإنما خطاب عام ورسمى، هو رطان لا يعبر عن واقع حقيقى، والملاحظ أن التعاون العربى المشترك تأكد فى اتفاقيات الأمن فقط، ولكن الاتفاقات العسكرية والاقتصادية أو المواقف السياسية أو المشروعات الثقافية بل ومشروعات ترجمة مشتركة، كل هذا قيل كلاما، ولم تتهيأ له الأرضية اللازمة.
جدير بالإشارة أن مشروع الحداثة المصرى بدأ وسقط أو تعثر عدة مرات ولا نجد دراسة تبين الأسباب الداخلية، وإنما التركيز فقط على مؤامرات الخارج، وغسل أيدينا من أن تكون ثقافتنا سببا سواء الثقافة السياسية فى نظام إدارة المجتمع أو التنشئة الاجتماعية أو الموروث الثقافى”.
وهنا السؤال: لماذا نجحت اليابان أو الصين أو كوريا أو سنغافورة وفشلنا نحن؟
أسباب كثيرة تعود أكثرها الى ثقافتنا المعيشية:
أولا: النهضة ليست مسألة إصلاح وترميم بل تطوير حضارى، انتقال من دورة حضارية الى دورة أرقى فى أدوات الإنتاج المادى والمعنوى، ومن ثم تغير الإنسان وصورة العالم.
ثانيا: التطوير الحضارى المستدام اختيار توافقى وإبداع ذاتى لمجتمع حر وليس وصاية أبوية، فالبشرية منذ عصر الصناعة تعيش عصر الإنسان المؤهل علميا وتعليميا واجتماعيا وسياسيا للمشاركة الإيجابية وتحمل المسئولية.
ثالثا: جميع المجتمعات أنجزت تطويرا حضاريا ابتداء من أوروبا ثم بلدان الشرق الأقصى بأن استهلت حراكها الاجتماعى نحو الهدف المنشود بإسقاط هيبة السلف فى عيون شعوبها بدلا من الاحتكام للسلف فى كل صغيرة وكبيرة، فضلا عن اعتماد العقل العلمى والواقع حكما ومرجعا فى إدارة شئون المجتمع نحو هدف إستراتيجى مرسوم.
رابعا: تتميز بلدان الشرق الأقصى بالحرية الدينية دون إلزام أو تمييز وإعفاء السماء من مسئولية واقع ومستقبل المجتمع والإنسان.
خامسا: تعظيم الثروة البشرية بفضل تأهيل الإنسان ليكون فعالية اجتماعية نشطة «محو الأمية التعليمية والعلمية والثقافية والحاسوبية» وتأكيد المواطنة «شركاء دون تمييز على أساس من عرق أو لون أو دين»- حرية الإبداع واستنفار حماسة المرء للتحدى والمنافسة والنهم المعرفى.
سادسا: توافر دراسات علمية مؤسسية عن واقع وتاريخية مشكلات المجتمع والإنسان وتحديد العلاج دون ارتجال مع توافر النظرة الندية والمنافسة للعالم، وهكذا استطاع المفكرون فى اليابان وفى الصين الإسهام بنظريات جديدة فى التحديث الاجتماعى.
سابعا: المثقف المصرى العربى مسئول أولا وأساسا عن التخلف، إنه ليس مثقف الموقف العضوى الملتحم مع الجماهير، بل هو مثقف الأمير خوفا وطمعا.
ثامنا: غرس ثقافة التطوير والتغيير، ثقافة تؤكد أن نهج التطوير قيمة ثقافية وموقف من الحياة وفضيلة اجتماعية، بدلا من ثقافة تعطى أولوية الوجود للحياة بعد الموت دون العمل لإعمار الأرض بمنهج علمى، ثقافة الفعل لا الكلمة، ثقافة المستقبل.
تاسعاً: ثقافتنا الموروثة تعفى الإنسان من مسئولية الفعل فى الدنيا، وتغرس نرجسية زائفة باسم الدين أو غيره، لذلك فإننا حين نواجه كارثة تهدد وجودنا، نلوم الآخر ونحمله المسئولية دون أن نسأل فى جرأة: ما السبب فينا وجعلنا فريسة؟
عاشراً: ثقافة العقل الباحث عن السبب والكيف لا التواكل.
ألم يغن التطور التكنولوجى عنا شيئا لإنتاج ثقافة علمية؟
قال داعية إسلامى مشهور فى هذا الشأن:
«لقد كرس الله الغرب لخدمتنا» وهلل له المستمعون تهليلا، ولم يدرك، ولم يدركوا أن استيراد التكنولوجيا كاملة، استيراد لتبعية كاملة وترسيخ لعطالة اجتماعية محليا.
العلم نشاط مجتمعى منتج لثقافة علمية فى مناخ من الحرية والسؤال: هل يمكن أن تنشأ وتسود ثقافة علمية وتفكير ملتزم بالمنهج العلمى فى مجتمع لا ينتج علما، ولا يسأل عن الأسباب؟
ويكفى كمثال توضيحى قصة التفاحة ونيوتن، لماذا سقطت؟
هنا ثقافتان: ثقافة سألت لماذا وكيف ووصلت الى قانون الجاذبية.
وثقافة حفزت صاحبها على التهام التفاحة شاكرا السماء على واسع نعمائها.
لا نكف عن الزهو بماضينا العلمى المجيد، لكننا فى حاضرنا نقاوم العلم أشد المقاومة.. هل من تفسير لهذا التناقض والفصام النكد؟
هذا موقف انتهازى لدى البعض من باب المحاجة الزائفة.
واقع الحال أن أئمة النقل وأهل السلف رأوا ولا يزالون أن هذه سنوات النكبة لا سنوات الحضارة العربية الإسلامية.
والذى ساد وانتصر عقل الصحراء الذى عبر عنه حجة الإسلام أبو حامد الغزالى فى رسالة «أيها الولد» عن العلم النافع للإنسان فى الدنيا والآخرة، وهو العلم الدينى، لا العلوم العقلية ولا العلوم الطبيعية والفلسفية، ولكن البعض فى معرض المساجلة الفارغة مع الغرب يدفع بأننا أبدعنا علوما وسرقها الغرب وأن نهضته مدينة لنا.
والموقف هنا كاشف لجهلنا بمنهج التفكير العلمى وتاريخية العلم، وكيف أن الدورة الحضارية التى تحمل اسم الحضارة العربية الإسلامية نشأت بفضل مجتمعات ذات حضارات سابقة: فى الإسكندرية وبابل وآشور وأوغاريت وفارس التى تفاعلت معا فى إطار الحضارة الهللينية ولكن تحت سيادة عسكرية سياسية عربية.
ومن ثم جاءت دورة الحضارة العربية الإسلامية امتدادا لها، ومقدمة لدورة الحضارة الغربية.
أين نحن من روح العصر؟
نكأ شوقى جلال الجراح فى مقاله الأخير بسؤاله: أين نحن حضاريا وثقافيا من روح العصر من العلم والتكنولوجيا فى تطورهما الصاعد.. فهلا اقترح أفقا نسير على هديه؟
يقول “هذا هو واقع الحال، الحضارة إبداع علمى ثقافى قرين إطار فكرى ثقافى استجابة لتحديات الزمان والمكان، ومن ثم فكل دورة حضارية لها قوى وأدوات إنتاجها وفكرها وثقافتها فى تفاعل جدلى وسيرورة وصيرورة ممتدة، وتتغير معها صورة الإنسان ومعنى الإنسان ودوره، وصورة العالم والكون.
والحادث أنه مع حضارة الصناعة تغير كل هذا فى أوروبا. البشرية الآن على أعتاب دورة حضارية هى امتداد منطقى لحضارة عصر الصناعة ولكن لها قوى وأدوات إنتاجها وتحدياتها المميزة، وستتغير معها صورة العالم الذى عرفته البشرية، وتكون إزاء صورة جديدة وعقل جديد وإنسان جديد بيوتكنولوجى أو بيو الكترونيك.
ولكن العرب لا يزالون أسرى صورة حضارة ما قبل الصناعة وأسرى كون أو عالم قديم تماما «أسطورى»، وأسرى فكر وذهنية ثقافية مضى زمانها منذ قرون ويعيشون على استيراد مستلزمات بقائهم من أدوات وعلوم مع تبعية فكرية، وغابت عنهم القدرة على فهم الواقع وتفسيره عصريا، وغابت عنهم صورة المستقبل، وطبيعى أن المجتمع الذى لا يملك صورة لحاضره وطريقا لمستقبله ولا ينتج وجوده أمره ومصيره ليس بيده.
أما عن أفق المستقبل فإن هذا يستلزم بالضرورة دراسة علمية مؤسسية عن أسباب تخلفنا الكامنة فى ثقافتنا وفى نظم أدواتنا لمجتمعاتنا، وعن قيمة الإنسان وقيمة الحياة الدنيا، وأهلية المواطن للمشاركة الإيجابية.
ولكن ثمة خصوصية بشأن مصر تحديدا أوجزها فيما يلى: هل يمكن لمصر أن تنهض وهى عاطلة من صورة موحدة لتاريخها فى أذهان أبنائها، الحركة الوطنية المصرية قبل اثنين وخمسين نجحت فى هذا”.
التراث والتاريخ
فى كتابه «التراث والتاريخ» بحث عن الذات القومية ومحاولة لمقاومة العولمة المتوحشة، ما النموذج الذى يراه شوقى جلال انتصر فى معركة الهوية؟
يجيب: “سؤال من نحن؟ قد يأتى فى سياق التحدى للآخر، وقد يكون ردة فعل ضد هجمة خارجية، وقد يكون صاحب السؤال عاطلا من الفعل والفكر ويتباهى بالماضى.
أولا فكرة العولمة – التواصل بين البشر على مستويات مختلفة على سطح الأرض فكرة قديمة ومتطورة بتطور وسائل الاتصال وتجرى فى إطار صراع الوجود بين القوى المختلفة، ومع ثورة الاتصالات الأخيرة وتكثف الاتصالات، وتحول العالم الى قرية والمواطن الى مواطن شبكى عالمى على جميع الأصعدة وفى جميع الأنشطة الاجتماعية والدولية، حرصت القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة أن تدير الأمر لمصلحتها وأطماعها، وفى سياق صراعاتها العالمية، وعمدت الى احتواء جهود المجتمعات الأخرى تحت شعار العولمة – الرأسمالية المتوحشة”.
ولكن المستعمرات السابقة التى انتصرت فى معارك التحرير من أجل الاستقلال بادرت بطرح سؤال الهوية الذى لم يكن مطروحا من قبل: هل صورتنا وحقيقة تاريخنا هى ما سطره الغرب عنا؟ أم أن شعوبنا صاغت تاريخها النضالى فى صورة مغايرة تؤكد اختلافنا وخصوصيتنا وحقنا فى التحدى؟
حدثنا الغرب اتساقا مع فلسفة التنوير الغربية عن عقل كونى، وحضارة كونية، وإنسان كونى وقيم ثقافية كونية، وجميعها تعنى عقل الغرب وقيمه وأنها هى الحضارة ومستقبل البشرية، وتجاوز أو تعال عن الخصوصية الزمانية المكانية.. هل هذا صحيح؟
ومع صحوة المستعمرات بدأ السؤال: من نحن؟ ما تاريخنا وخصوصيتنا؟
فى سياق عالم متواصل كوكبيا.. لم تغرق الصين أو اليابان فى كلام نظرى مجرد عن الهوية، وإنما أكدتا هويتهما وحققتا ذاتهما بالتحدى والندية لإنتاج الوجود المجتمعى على مستوى حضارة العصر.
ولكن البلدان العربية بعد أن أفاقت من غفوتها غرقت فى مساجلات أو ملاحاة كلامية عن هوية ثابتة تحققت فى الماضى، واختزلها المتحدثون فى ادعاء مقولات تاريخية انتقائية سواء العقيدة الدينية أو النزعة العربية ونفى كل تاريخ سابق أو لاحق.
إن مبدأ الهوية أن الشىء هو هو مبدأ غير صحيح بالمطلق، ولكنه صحيح إجرائيا أو مرحليا لأنه لا يوجد شيء هو هو فى الزمان والمكان، وإنما كل شىء يتغير بفضل الفعل المجتمعى لإنتاج الوجود.
إن تاريخ المجتمع هو تاريخ التغير فى الزمان، وإذا امتنع التغير ان امتنع التاريخ وامتنع الزمان.
المجتمع ليس هو العقيدة بمعناها على لسان الداعية لها، ولكنه سيرورة وصيرورة قبل العقيدة وبعدها، ومن ثم فإن هويته ممتدة فى تغير دائم.
الهوية فعل مجتمعى حضارى متطور فى الزمان وليست كيانا جامدا نشأ مرة وإلى الأبد.
الإنسان الأول أدرك هويته عندما استخدم يديه والآلة لتحقيق وجوده، والفنان يرى هويته فى إبداعاته المتطورة، وكذلك المجتمع، ولكن الإنسان / المجتمع السكونى العاطل من الفعل والفكر الحضاريين فإنه يلوذ بالماضى ويرى هويته فى السلف وليس فى حاضره أو مستقبله.
اليابان والصين نجحتا فى تأكيد الهوية المجتمعية التاريخية بفضل تطوير الموروث واستيعاب مقومات الحضارة الكونية الحديثة، وإنتاج الوجود الحضارى الذاتى فى ندية وتحد يعزز كبرياء المواطن.
ثقافة الوضع وثقافة الموقف
فرقت بين ثقافة الوضع وثقافة الموقف وقلت إن التصنيف ليس قدرًا، هل من سبيل لتجنب الثقافة الأولى، وترسيخ الثانية؟
الثقافة هى ما ترسب من حصاد معرفى للنشاط الاجتماعى وخبراته الحياتية، ولذا تستمد خصوصيتها من البيئة وفعالية الإنسان/ المجتمع، وتفاعلاته مع المواطن المحلى والمحيط الكونى.
ثقافة الوضع هى ثقافة المجتمع السكونى «الاستاتيكى» الذى تعطل فعله الحضارى لإنتاج وجوده، وتعطل فكره، ويلوذ برصيده الموروث، إنه يعيش عالة على الماضى مغتربا فى الزمان أو على الآخر المتقدم حضاريا مغتربا فى المكان.
وثقافة الموقف هى ثقافة المجتمع / الإنسان الدينامى صاحب الإرادة والفاعلية الحرة.
والسبيل الوحيد لتجنب الجمود هو الفعل المجتمعى الهادف لإنتاج الوجود، والمنتج للفكر والثقافة فى علاقة جدلية ممتدة فى الزمان، وعندما يتعطل الفعل الحضارى يجمد الفكر وتتراجع الثقافة الى مستوى أسطورى، وتكون السيادة للسلف، وثقافة «من فات قديمه تاه». أعنى التجرد من عباءة السلف الثقافية والموروث الثقافى والانتقال من ثقافة الكلمة، الثبات، السكون، التأمل الى ثقافة الفعل الحضارى والإرادة والمنافسة والإبداع، الانتقال من ثقافة التواكل على عقل الماضى الى فعالية عقولنا فى الحاضر، الى ثقافة العلم / العقل والواقع.
وطبيعى أن يقترن هذا بأمرين: إستراتيجية قومية للتطوير الحضارى الشامل.
حشد طاقات المجتمع العلمية والتعليمية والإعلامية وغيرها لخلق مناخ التجديد.
شوقي جلال في سطور:
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة.
وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م.
تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية.
شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر).
نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».