المجلةبنك المعلومات

بيتهوفن.. “الموسيقار الأصّم” الذي أسمع العالم أعذب الألحان

 

  • سبب صمّم بيتهوفن مازال غير معروف.. ويرجح المؤرخون أن السبب هو “التيفوس” أو “الذئبة الحمراء”
  • سُئل عن مصدر لفظ “فان” في اسمه الدال على نبالة الأصل.. فأشار إلى قلبه قائلا “إن مصدر نبالتي هنا”!
  • كان نبلاء أوروبا يعاملون الموسيقيين كـ”خدم”.. وبيتهوفن هو أول من عاملهم معاملة “الند بالند”
  • ألّف 9 سيمفونيات و6 مقطوعات و32 “سوناتا” و16 وترية.. ولم يسمع معظمها على الإطلاق
  • فكر في الانتحار سبب صممه وقال لصديقه: كدت أضع حداً لحياتي اليائسة إلا أن الفن وحده هو الذي منعني
  • كان مشهورا بعزلته وتشاؤمه.. وكان المعاصرون له يصفونه بأنه “شخص يطفح بالمرارة”
  • الباحثون: مات مسموماً “دون قصد” عن طريق تناوله جرعات تحوي نسبة عالية من الرصاص

 

لودفيغ فان بيتهوفن هو أعظم عباقرة الموسيقى الأوروبية على مر العصور، فهو صاحب أعمال موسيقية خالدة في تاريخ الموسيقى، وتشمل مؤلفاته 9 سيمفونيات طويلة و5 مقطوعات صغيرة للبيانو وواحدة للكمان، و32 “سوناتا” و16 مقطوعة وترية، تمكن من تأليف معظمها وهو أصّم، فاقد السمع، وهي معجزة بكل المقاييس، تدل على إرادة حديدية، فهو الموسيقار الأصّم الذي أسمع العالم أعذب الألحان

ويقال إن بيتهوفن الذي عُرف باعتزازه الشديد بنفسه، سئل ذات مرة أثناء وجوده في أحد قصور النبلاء، حيث كان يمارس عزف الموسيقى بأجر، عن مصدر لفظ “فان” في اسمه، والذي يساوي في اللغة الفرنسية لفظ “دو” الدال على نبالة الأصل، وقتها، فأجاب مشيرا إلى قلبه “إن مصدر نبالتي هنا”!

وُلد لودفيغ فان يوهان بيتهوفن في 16 ديسمبر 1770، في بلدة تسمى “ميشيلن” جنوب الإمبراطورية البروسية آنذاك “ألمانيا” حاليا، وهي تتبع بلجيكا الآن، لأسرة تضم عدة أبناء كان عائلها يعمل بتدريس الموسيقى لأبناء النبلاء، ثم انتقل “لودفيج” في صباه مع والديه للعيش في مدينة “بون”، وظهرت موهبته الموسيقية في سن مبكرة، حيث درس العزف على البيانو على يد والده فان يوهان بيتهوفن، وكان الأب معروفا بالشدة في تعامله مع ابنه، حتى قيل إن الابن كان يعزف باكيا بسبب شدة أبيه عليه أثناء تعليمه.

العبقري الصغير

قدّم بيتهوفن أول حفلاته الموسيقية المعروفة في الثامنة من عمره في مدينة “كولونيا”، كما قام بنشر أولى أعماله وهو في الثانية عشر من عمره عام ، وعومل منذ صباه باعتباره “عبقريا صغيرا” مثل نظيره ومعاصره الشهير وولفغانغ أماديوس موتسارت، غير أن الاثنين لم يلتقيا أبدا.

وسافر الشاب “لودفيغ” عام 1787 إلى العاصمة النمساوية فيينا للمرة الأولى في حياته لدراسة الموسيقى، التي كانت عاصمة الفن في أوروبا وقتذاك، ثم عاد إلى “بون” بعد أسبوعين من وصوله إلى المدينة بسبب مرض أمه، التي سرعان ما توفيت بعد وقت قصير، وأدمن والده بعد موتها تعاطي الكحول، ونتيجة لذلك، أصبح لودفيج مسؤولا عن رعاية أخوته الصغار، فاضُطر للبقاء في “بون” لمدة 5 سنوات لإعالة الأسرة التي عانت من الفقر بعد تدهور أحوال الأب، الذي توفي بعد بضعة أشهر حزنا على زوجته.

وتتلمذ “لودفيغ” في فيينا على يد الموسيقار المعروف جوزيف هايدن، إلا أن خلافات ونشبت بينه وبين معلمه، فبدأ يتنقل بين معلمين آخرين، ما ساهم في صقل شخصيته الموسيقية من خلال مدارس فنية مختلفة أفادته كثيرا فيما بعد.

وانتقل بيتهوفن بعد ذلك، وتحديدا في عام 1792 إلى “فيينا” بشكل نهائي، حيث عاش هناك بقية عمره حتى وفاته، وعُرف في تلك الفترة من حياته باعتباره عازف بيانو متمكنا.

تعرّف بيتهوفن في تلك الفترة على عدد من الأشخاص المُلهمين في حياته، منهم فرانز ويغلر، الذي كان طالبا في كلية الطب، وعرّفه الأخير “ويغلر” بأسرة فون بريونينغ الثرية، ودائما ما كان بيتهوفن يزور الأسرة لتعليم الأطفال العزف على البيانو مقابل أجر.

وبين عامي 1790 و1792، بدأ بيتهوفن في تأليف عدد من الأعمال الموسيقية التي كانت بمثابة تدريبات صقلت موهبته، ولم تُنشَر هذه الأعمال فور تأليفها، وعُرِفت فيما بعد باسم “أعمال بيتهوفِن غير المصنّفة”.

وبحلول عام 1793، حظي بيتهوفن بسمعة جيدة في أوساط النبلاء، الذين كانوا يقدمون الدعم المالي والمساندة للفنانين الشبان آنذاك، تشجيعا للمواهب الجديدة، حيث كان بيتهوفن يعزف في الصالونات، وغالبا ما كان يقدم معزوفات من مؤلفات الموسيقار يوهان سباستيان باخ الموسيقية التي كانت رائجة بقوة في تلك الفترة، ولاحظ عدد من النبلاء قدرته وبراعته كعازف ماهر فعرضوا عليه أن يدعموه ماليا، وقد كان.

وقبل بيتهوفن، كان نبلاء أوروبا يعاملون الموسيقيين باعتبارهم ضمن “الحاشية والخدم”، لكن الموسيقار الكبير هو أول من عامل النبلاء معاملة الند بالند، فلم يكن يقف صاغرا مثل غيره في حضرتهم، بل كان يعامل بعضهم بجفاء شديد، اعتزازا بنفسه وبموهبته الفذة.

وعلى الرغم من دعم الطبقات الأرستقراطية لبيتهوفن في شبابه، إلا أنه عاش فقيرًا ومات فقيرًا، لكن ميراثه الحقيقي كان أعماله الفنية التي خلدت ذكراه على مر السنين.

كارثة الصمت والعزلة

بدأ بيتهوفن وهو في السادسة والعشرين من عمره يفقد سمعه بالتدريج، وهي كارثة بكل المقاييس لرجل يكسب عيشه من الموسيقى، وكان يعاني من طنينا حادا في أذنيه مما صعب عليه سماعَ الموسيقى بشكل جيد، وقد فصار منعزلا يتجنب الناس، وبدأ منذ ذلك الحين يعيش في عزلة تامة.

ومازال سبب صمم بيتهوفن غير معروف طبيا، ويرجح مؤرخو الموسيقى أن يكون السبب هو إصابته بمرض “التيفوس الوبائي”، أو أحد اضطرابات المناعة الذاتية التي يسببها مرض “الذئبة الحمراء”، وحين شرّح الأطباء جثمانه بعد نحو 300 عام من وفاته، تبين أن أذنه الداخلية كانت ملتهبة بشكل حاد، ولم تكن التقنيات الطبية المتوفرة في ذلك العصر تتيح علاجا حاسما لهذ المرض.

كتب بيتهوفن في تلك الفترة لأصدقائه رسائل حزينة يصف لهم فيها حالته المرضية المتدهور، ومدة تأثير الصمم على حياته المهنية والاجتماعية، معربا لهم رغبته في الانتحار، فهو موسيقي ولا يستطيع العيش بدون الاستماع لما يؤلفه من أعمال على الأقل، وبحلول العقد الأخير من حياته صار أصمّا تماما، إلا أن صممه هذا لم يمنعه من استكمال مسيرته الموسيقية، وإن كان أصبح مشهورا بعزلته وتشاؤمه، وكان المعاصرون له يصفونه بأنه “شخص يطفح بالمرارة”.

وفي إحدى هذه الرسائل، قال لصديق له “يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي ولا أستطيع أنا سماعه، أو يسمع آخر غناء أحد الرعاة بينما أنا لا أسمع شيئاً، كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس، ولقد كدت أضع حداً لحياتي اليائسة، إلا أن الفن وحده هو الذي منعني من ذلك”.

وقال في رسالة أخرى “آه منكم أيها الناس الذين ترونني كئيبًا، حقودًا، فظ الخلق، إنكم تظلمونني هكذا، أنتم لا تعرفون السبب الغامض لسلوكي هذا، فمنذ سن الطفولة تفتح قلبي وروحي على الرقة والطيبة، وكان هدفي دومًا الوصول إلى الكمال، وتحقيق الأمور العظيمة، ولكن فكروا في أنني أعاني منذ ست سنوات من ألم لا شفاء له، زاده أطباء عاجزون”.

كاره البشر!

ألّف الموسيقار العبقري في تلك الفترة “السيمفونية التاسعة” الشهيرة ولم يسمع منها شيئا، وخلال العزف الأول للسيمفونية في دار أوبرا “فيينا” عام 1824، حيّاه الجمهور بالتصفيق مع الوقوف 5 مرات، وكانوا يلقون بقبعاتهم ومناديلهم في الهواء ويرفعون أيديهم، في محاولة للفت انتباه بيتهوفن الأصم ليرى أنهم كانوا يصفقون له!

وكانت هذه الأمسية هي ظهوره الأخير علنا بعد 12 عاما أمضاها في عزلته، فقد أصبح يتجنب الناس، وصار يستخدم الكتابة للتخاطب مع عدد قليل من معارفه المقربين، إلى حد أنه اتُهم بأنه “كاره البشر”، وقد جمع أصدقاؤه بعض هذه المحادثات المكتوب في كتاب ما زال موجودا في “متحف بيتهوفن” في بون حتى الآن. (3).

وفي ظل حياة بيتهوفن الشخصية المضطربة، وعجزه البدني وصممه الكامل، أنتج الرجل أعظم موسيقاه على الإطلاق، وربما كان مؤلفاته أروع من أي وقت مضى، وكان عام 1824 من أفضل الأعوام التي أنجز فيها بيتهوفن أهم أعماله، ففي هذا العام ألّف “السيمفونية التاسعة” والأخيرة، والتي يعتبرها نقاد الموسيقى الكلاسيكية أهم عمل فني من نوعه في تاريخ الفن الأوروبي والعالمي.

ولا تزال سيمفونياته التسع ومؤلفاته العديدة نبعا ينهل منه كل محبي الموسيقى الكلاسيكية في العالم، وكانت أعظم موسيقاه على الإطلاق هي تلك التي أنتجها في مرحلته الأخيرة الصماء، فمن وسط أشد أنواع العزلة عمقا، وهب بيتهوفن الفن فهمًا أعمق،  لقد كان مريضًا فقيرا أصم مهجورًا من الناس، ومن خلال هذه الأعماق الرهيبة التي كان يقبع فيها أصدر أعظم ألحانه وأكثرها خلودا.

وتوفي بيتهوفن في 26 مارس من عام 1827، عن عمر ناهز 56 عاما، وكشف تشريح جثمانه فيما بعد أن سبب الوفاة المباشر هو تليف الكبد بسبب أفراطه في تعاطي الكحوليات مثل والده تماما.

وأُقيم له موكب الجنازة في 29 مارس 1827 وشارك فيه نحو 20 ألف شخص من محبيه، ويُذكر أن الموسيقار الكبير فرانز شوبرت حضر الجنازة وكان أحد حاملي الشعلة، ودُفن بيتهوفن في مقبرة في حيّ “وارينغ” شمال غربي فيينا، واستخرج جثمانه في عام 1862 من أجل إجراء الأبحاث والدراسات عليه، ثم أُعيد دفنه مجددا عام 1888 في مقبرة فيينا المركزية.

وحتى هذه اللحظة، مازال هناك خِلاف بين الباحثين حول سبب وفاة بيتهوفن المُبكّرة، فقد اقترحوا عدداً من الأمراض ربما أحدها هو سبب وفاته، وهي: تشمع الكبد، أو مرض “الزهري” القاتل الذي كان منتشرا في زمانه، ولم يكن له علاج وقتها، أو التهاب الكبد الوبائي، أو التسمم بالرصاص الذي كان يتعاطه لأغراض علاجية أثناء حياته، فقد أكّد الباحثون أنه مات مسموماً بدون قصد عن طريق تناوله جرعات تحوي نسبة عالية من الرصاص بموجَب تعليمات من طبيبه.

وهناك عدد كبير من الغرائب والمفارقات الإبداعية في حياة بيتهوفن، مثلما كانت حياته الغريبة وإبداعه النادر، وربما كان أسلوبه في التأليف والإبداع هو الأكثر غرابة كما يقول النقاد، حيث اشتهر بدفتر المسودة الذي يدون عليه ملاحظات أولية و”مسودات” لم تكن في الحقيقة سوى النسخة الأولى للسيمفونيات الرائعة التي اشتهر بها، إلى درجة أن النقاد استغربوا بعد موته كيف كان يحول هذه “المسودات” غير المفهومة إلى مقطوعات رائعة من الموسيقى؟، وربما هذا كان هو سر عبقريته الخالدة!

زر الذهاب إلى الأعلى