استعان الطب التقليدي الصيني بالجنكة، أحد أقدم أنواع الأشجار الحية، لعلاج الأمراض، وتطور استخدامها فيما بعد حتى تم تحويل مستخلص أوراقها -التي تشبه المروحة- إلى مكملات غذائية نباتية، واسعة الانشار حول العالم، لأغراض علاجية، منها تحسين الذاكرة، ومكافحة القلق وطنين الأذن ومشكلات الرؤية.
وتكتسب أوراق الجنكة فوائدها العلاجية من احتوائها على مركبات الفلافونويدات، التي تمتلك خصائص قوية مضادة للأكسدة، والتربينويدات التي تساعد على تحسين الدورة الدموية عن طريق توسيع الأوعية الدموية والحد من “التصاق” الصفائح الدموية.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة حديثة، أجراها باحثون بجامعة جازان بالمملكة العربية السعودية، وجامعة أسيوط المصرية، ونُشرت مؤخرًا في دورية دايابيتز، ميتابوليك، سيندروم آند أوبيستي، أن مستخلص أوراق الجنكة، يمكن أن يساعد في علاج مرض السكري من النوع الثاني.
وللوصول إلى نتائج الدراسة، راقب الفريق 40 من الفئران، قسموهم إلى 4 مجموعات متساوية العدد، لم تكن الأولى مصابة بالسكري، في حين أصاب الفريق المجموعات الثلاث بالسكري من النوع الثاني، عن طريق نظام غذائي غني بالدهون لمدة ثمانية أسابيع، تلا ذلك حقنهم بمادة “الستربتوزوتوسين” السامة، التي تستخدم في البحوث الطبية لإنتاج نموذج حيواني لفرط سكر الدم.
ومن بين المجموعات الثلاث المصابة بالسكري، جعل الفريق إحداها مجموعةً ضابطة، فيما أعطوا المجموعتين الأخريين مستخلص أوراق الجنكة، والماء الممغنط، عن طريق الفم لمدة أربعة أسابيع متواصلة. وجد الباحثون أن كتلة خلايا بيتا في البنكرياس وكمية الإنسولين في خلايا المجموعتين المصابتين بالسكري تزداد بشكل ملحوظ، وتعود إلى المستويات الطبيعية تقريبًا، مقارنةً بالمجموعة الثالثة التي لم تتناول الجنكة أو الماء الممغنط.
والماء الممغنط هو ماء يتم تمريره من خلال مجال مغناطيسي؛ لتغيير بعض خواصه، بحيث يساعد على التقليل من نسبة الجلوكوز في الدم، وتحسين حالة مضادات الأكسدة، وكذلك حالة الدهون لدى الفئران المصابة بالمرض، وفق نتائج الدراسة.
رصد الفريق “التأثير الجيد” لمستخلص الجنكة على “جزر لانجرهانس” (Islets of Langerhans)، وهي مجموعة من الخلايا داخل البنكرياس، مسؤولة عن إنتاج وإفراز هرمونات الإنسولين التي تنظم مستويات الجلوكوز في الدم. كما وجدوا أن الجنكة والماء الممغنط قد حسَّنا من حالة مضادات الأكسدة، وقللا من الإجهاد التأكسدي المرتبط بمرض السكري من النوع الثاني، من خلال تنظيم عمل إنزيمين من مضادات الأكسدة، ضروريان لإعادة بناء أنسجة الجسم وإصلاحها، وتكوين مواد كيميائية وبروتينات مهمة للجسم.
نتائج مبشرة
من جانبه قال ممدوح أنور، أستاذ الفسيولوجيا الطبية بكلية الصيدلة بجامعة جازان بالمملكة العربية السعودية، وكلية الطب بجامعة أسيوط في مصر، وأحد المشاركين في الدراسة: إن النتائج التي توصل إليها الفريق مبشرة، لكنها تعتبر أولية، حتى يتم إجراؤها على البشر.
وعن سبب اختيار مستخلص أوراق الجنكة في أبحاث السكري، أضاف -في حديث لـ”للعلم”- أن الجنكة تدخل بالفعل في العديد من الأدوية التي تساعد على زيادة تدفق الدم للدماغ، بالإضافة إلى التخلص من الإجهاد التأكسدي، وهي إحدى أكبر مشكلات مرض السكري، وخصوصًا النوع الثاني، لذلك أجرينا دراستنا لاكتشاف تأثيراتها العلاجية على مرضى السكري من الفئران.
وأوضح “أنور” أن الفريق اكتشف عبر التجارب أن هذا المستخلص ساعد على زيادة كتلة خلايا “بيتا” المسؤولة عن إنتاج الإنسولين، كما زاد من “جزر لانجرهانس” أيضًا، وبالتالي زادت نسبة الإنسولين لدى الفئران، بالتزامن مع تقليل نسب الإجهاد التأكسدي، الذي عادةً ما يصيب خلايا بيتا ويقتلها.
وأشار إلى أن البحث كان ممولًا من جامعة جازان، ويتطلع الفريق البحثي إلى الحصول على الدعم اللازم لإجراء دراسات موسَّعة على الحيوانات، قبل إجراء دراسات على البشر؛ لكشف التأثير المباشر على مرضى السكري، ومدى تأكيد النتائج التي تم التوصل إليها على الفئران من عدمه؛ لأن النتائج تختلف بطبيعة الحال من الحيوانات إلى البشر.
وإلى حين إجراء البحث على البشر، لبيان التأثيرات العلاجية المحتملة، والآثار الجانبية، نصح ” أنور” مرضى السكري بعدم تناول مستخلص الجنكة مطلقًا؛ لأن الأدوية التي تجرب على الحيوانات، لا يُعتد بها علاجًا للإنسان، إلا بعد تجارب سريرية مستفيضة على البشر، لكشف مدى ملاءمتها لمرضى السكري، فربما لا تناسب جميع مرضى السكري، وخاصةً المرضى المصابين بارتفاع شديد في ضغط الدم، كما نصح بعدم أكل بذور الجنكة الخام أو المحمصة؛ لأنها يمكن أن تكون سامة.
آثار جانبية
ونظرًا لتزايُد استخدامها في الولايات المتحدة، يقوم البرنامج الوطني الأمريكي لعلم السموم بإجراء الكثير من الدراسات لرصد تأثير السموم الموجودة في بذور الجنكة النيئة أو المحمصة، والتي تُوجَد بكميات قليلة في الأوراق أيضًا.
ويتم تسويق الجنكة في الولايات المتحدة بوصفها مكملًا غذائيًّا، تنظمه هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA). وبينما تشير بعض الدلائل إلى أن مستخلص أوراق الجنكة يمكن أن يحسِّن بشكل معتدل من الذاكرة ووظائف المخ لدى البالغين، كشفت دراسة أجراها البرنامج الوطني الأمريكي لعلم السموم، بالتعاون مع معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، على 3000 آلاف من البالغين أن تناوُل 120 ملليجرامًا مرتين يوميًّا لم يكن فعالًا في الحد من الخرف أو تقليل التدهور المعرفي، أو تقليل ضغط الدم المرتفع، أو الحد من أمراض القلب والأوعية الدموية. كما كشفت الدراسات التي أجراها البرنامج على الفئران، في دراسة استمرت لمدة عامين، أن الاستخدام طويل الأمد لمستخلص الجنكة يمكن أن يصيب الفئران الذكور والإناث بسرطان الكبد والغدة الدرقية.
ويمكن أن تسبب الجنكة آثارًا جانبية، مثل الصداع والدوار وخفقان القلب واضطراب المعدة والإمساك وردود أفعال تحسسية في الجلد، كما يمكن أن تتفاعل مع بعض العقاقير فتقلل من فاعليتها، مثل عقار “ألبرازولام” (Xanax) الذي يُستخدم لتخفيف أعراض القلق، ومضادات الاكتئاب، مثل فلوكسيتين (Prozac، Sarafem) وإميبرامين (Tofranil)، وبعض العقاقير المخفضة للكولسترول. قد يقلل تناول الجنكة مع سيمفاستاتين (Zocor) من تأثيره. كما تزيد من خطر التعرُّض للنزف، إذا تم تناولها مع مضادات التجلط والعقاقير المضادة للصفائح، ومضادات الالتهاب مثل “إيبوبروفين” (Ibuprofen).
وإذا كنت مصابًا بالصرع أو ميالًا للإصابة بنوبات تشنجية تجنب استخدام الجنكة؛ لأن الكميات الكبيرة منها يمكن أن تسبب النوبات التشنجية، كما أنها خطر على الحوامل والمسنين والمصابين باضطراب نزفي؛ لأنها قد تزيد من خطر النزف، ويجب التوقف عنها إذا كنت تخطط لإجراء جراحة قبلها بأسبوعين.
علاج مساعد
من جانبه، قال مصطفى كامل عطية، استشاري أمراض الباطنة والسكر والتغذية العلاجية: إن البحث يركز على الدور الذي يؤديه مستخلص أوراق الجنكة في مساعدة مرضى السكري على التحكم في مستويات السكر بالدم، لكن هذا المكمل لا يغني مطلقًا عن العقاقير التقليدية الشهيرة لعلاج المرض.
وأضاف -في حديث لـ”للعلم”- أن ما يميز مستخلص أوراق الجنكة أنه غني بمضادات الأكسدة، وهي مركبات تنتج في الجسم وموجودة بنسبة كبيرة في بعض أنواع الأطعمة والمكملات الغذائية، تساعد في الدفاع عن الخلايا من التلف الذي تسببه جزيئات ضارة موجودة في الجسم تسمى “الجذور الحرة”، وعندما تتراكم هذه الجزيئات في الجسم فإنها تتلف الحمض النووي أو DNA للخلايا، وتسبب حالةً تسمى بالإجهاد التأكسدي، الذي يمكنه أن يسبب أمراضًا مزمنة وقاتلة، مثل القلب والسكري والسرطان.
وللحصول على فوائدها، نصح مرضى السكري من النوع الثاني بضرورة تناوُل مستخلص أوراق الجنكة، تحت إشراف الطبيب، وضمن الجرعات المقررة التي تتراوح بين 40 إلى 120 ملليجرامًا يوميًّا، وفقًا لحالة كل مريض، وأخذ هذه المكملات من شركات أدوية معروفة، وليس من محلات العطارة أو الشركات التي تتاجر في الأعشاب، للسيطرة على الآثار الجانبية التي يمكن أن تنجم عن الجرعات الزائدة من هذا المستخلص، ولضمان أن هذا المستخلص لن يتعارض مع أدوية أخرى ويسبب خفض فاعليتها، أو يسبب مشكلات صحية أخرى مثل النزيف.
وأشار “عطية” إلى أن الدليل السنوي الذي وضعته جمعية السكري الأمريكية لعام 2019، لم يتضمن وجود أي أعشاب أو مكملات غذائية معتمدة لعلاج السكري من النوع الثاني، ولكي يُدرج أي دواء ضمن هذا الدليل لا بد أن يمر عبر التجارب العلمية المتعارف عليها، بدءًا من التجارب ما قبل السريرية على الحيوانات، ثم التجارب السريرية على البشر، ثم اعتماده بشكل رسمي من قِبَل هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، لذلك يتم تسويق مستخلص أوراق الجنكة في الولايات المتحدة والعالم على أنه مكمل غذائي وليس عقارًا دوائيًّا.
وأوضح أن المكمل الغذائي عادةً لا يعالج مرضًا معينًا، لكنه ربما يساعد في العلاج، ولا يغني بطبيعة الحال عن العقاقير المعتمدة للسكري، شأنه في ذلك شأن الممارسات التي ينصح أطباء السكري مرضاهم باتباعها، مثل الحفاظ على النشاط البدني، والابتعاد عن الأغذية التي تزيد الوزن، وتناوُل أطعمة مثل الكركم والبصل والثوم، للمساعدة على إفراز الإنسولين، وكلها عوامل مساعدة ربما تسهم في خفض جرعات الأدوية المطلوبة لضبط السكر في الدم.
ألياف غذائية
في المقابل، رأى عبد الرحمن رجب -أستاذ التغذية وعلوم الأغذية بكلية التربية النوعية بجامعة عين شمس- أن تأثير المكمل الغذائي لنبات الجنكة على مرض السكري يمكن تحقيقه عبر تناوُل الأغذية الطبيعية التي تحتوي على نسب مرتفعة من الألياف الغذائية بصورة آمنة وصحية.
وأضاف -في تصريحات لـ”للعلم”- أن الدراسة توصلت إلى أن مستخلص الجنكة حسّن من إفراز هرمون الإنسولين لدى الفئران المصابة بالسكري، لكن تناوله يمكن أن يكون محفوفًا بالمخاطر والآثار الجانبية كما هو وضع الأدوية والمركبات الكيميائية، خاصةً أنه لا يلائم فئات كثيرة من البشر.
وأوضح أن الجنكة -مثلها مثل الكثير من النباتات الطبية- تتميز بوجود مركبات فعالة تفيد في بعض الحالات المرضية، أشهرها الأمراض المرتبطة بالذاكرة وتجلط الدم، لكن تناوُل النبات كما هو أو تناول المستخلص الموجود في الأسواق في صورة أقراص وكبسولات، بكميات كبيرة له العديد من المشكلات الصحية والآثار الجانبية سواء للإنسان أو الحيوان، ويفترض ألا يتم إلا تحت إشراف الطبيب، إذ تبقى صحة الإنسان هي الأهم، ويستحسن الابتعاد عن كل ما يصيب البشر بالضرر، حتى ولو كانت الكميات القليلة منه لا تضر.
وعن وجه الضرر الذي يمكن أن يمثله مستخلص الجنكة، أشار “رجب” إلى أن المركبات الفعالة الموجودة بالجنكة عبارة عن مركبات مضادة للأكسدة، وتفيد إذا كانت بتركيزات قليلة، لكن التركيزات العالية منها تتعارض مع نشاط بعض الهرمونات الموجودة بالجسم، مثل هرمونات الغدة الدرقية، ويمكن أن تسبب الحساسية، كما أنها محظورة تمامًا على الأطفال والسيدات الحوامل والمرضعات، ومَن يعانون من أمراض الدم، لذا فالأفضل أن يحرص مرضى السكري على تناوُل الألياف الغذائية بكثرة؛ لتحسين إفراز هرمون الإنسولين بصورة طبيعية وآمنة.
وتشمل الأطعمة الغنية بالألياف خضراوات مثل الجزر والبطاطس والسبانخ والبروكلي والكوسا والخس والباذنجان والملفوف، كما تشمل فواكه مثل الموز والتفاح والفراولة والخوخ والبرتقال، وحبوبًا وبقوليات مثل القمح والبازيلاء والعدس والفاصوليا والفول والحمص.