رجاء النقاش.. ناقد من الزمن الجميل

رجاء النقاش.. مسيرة حافلة وموهبة أدبية ونقدية

أحب (رجاء النقاش) كثيراً وأحب أسلوبه وكتابته الصحفية وتناوله للأعمال الأدبية، كما أحب شخصيته السمحة والبسيطة والمتواضعة والهادئة، والنقاش ليس من المغمورين ولا من المنسيين؛ فهو أحد أعلام الصحافة والنقد والأدب في مصر والعالم العربي الذي ستظل أعماله شاهدة على تميزه ومرتبطة بتقديمه واكتشافه لكبار الكتاب والأدباء كمحمود درويش والطيب صالح وأحلام مستغانمي وغيرهم من الكتاب، وقد أثرى النقاش مجال الصحافة والأدب بالعديد من المقالات والكتب النقدية والإبداعية المهمة، وقد اعتمد في نقده وتحليله للنصوص الأدبية على ذوقه الشخصي وثقافته الواسعة بعيدا عن الالتزام بحرفية المنهج النقدي والمقولات الجوفاء والانحياز الجائر.

رجار النقاش والاشتغال بالصحافة

اشتغل رجاء النقاش بالصحافة قرابة نصف قرن، وشغل خلال تلك المدة الطويلة العديد من المواقع والمناصب، وكتب مئات المقالات وقدم العديد من الدراسات واللقاءات الصحفية المهمة في الأدب والفن والسياسة والمجتمع، وخلال رحلته الطويلة والممتدة عُرِف بمصداقيته، واتساع رؤيته، ودقة تناوله للموضوعات، وربما الذي ساعده على ذلك أنه لم يزج بنفسه في الصراعات والتجاذبات الشخصية، فانصب اهتمامه على المكتوب لا الكاتب، وكان هدفه هو الوصول إلى الحقيقة، والقيام بواجبه والانتصار لمبادئه وقناعاته، وكان النقاش يتمتع بروح سمحة مع مخالفيه في الرأي؛ فلم يُعرَف عنه التعصب ولا التزمت ولا اللدد في الخصومة كما وصفه معاصروه والمقربون منه، وقد وظف النقاش كل إمكانياته المهنية والأدبية من أجل الارتقاء بالأدب والثقافة، وجَعْل الثقافة في متناول القارئ العادي لا حكرا على النخبة ولا الطبقات العليا، وهذه إحدى مزايا النقاش الكبرى حيث جعل النقد والثقافة في متناول القارئ العادي والبسيط، وقد كان “يتحلى في كل مواقفه وخصوماته بروح الفروسية؛ فهو خصم شريف على الدوام، عف اللسان إن تكلم، وعف القلم إن كتب، عندما يخطئ لا تأخذه العزة بالإثم فيصر على أنه على صواب، بل لديه الشجاعة الكافية لأن يعترف بخطئه وينتصف لخصمه من نفسه قبل أن ينتصف منه الآخرون”. (سعد عبد الرحمن: مقدمة كتاب: أدب وعروبة وحرية، هيئة قصور الثقافة، القاهرة، 2008 م، ص 1)، وهذه شهادة مهمة صادرة عن كاتب ومثقف عاصر النقاش، وينتمي إلى نفس المدرسة التي ينتمي إليها والتي تسعى إلى نشر الثقافة بين الأوساط الشعبية بعيدا عن الاستعلاء النخبوي المقيت، كما أنه يمارس الكتابة بروح التسامح والتواصل مع التيارات كافة.

رجاء النقاش.. ناقد من الزمن الجميل
رجاء النقاش.. ناقد من الزمن الجميل

مولد رجاء النقاش

ولد رجاء النقاش عام 1934م في محافظة الدقهلية بمصر، وتخرج في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1956م، ومنذ التحاقه بكلية الآداب بدأ في إعداد نفسه وتهيئتها للعمل الصحفي والأدبي؛ فشرع في مراسلة الصحف المشهورة في ذلك الوقت وحضور الندوات والفعاليات الثقافية في الجامعة وخارجها، وقد نشر أولى مقالاته في مجلة الآداب البيروتية عندما كان طالبا بالفرقة الأولى بالجامعة، وبعد تخرجه في الجامعة عمل بمجلة روز اليوسف عام 1959 م، ثم انتقل للعمل بجريدة الأخبار المصرية محررا صحفيا، ومنها إلى جريدة الجمهورية ثم دار الهلال، وعُيَّنَ محررا ثقافيا بمجلة المصور، ليترأس بعدها تحرير مجلة الكواكب ومجلة الهلال، ويصبح فيما بعد رئيسا لمجلس إدارة مجلة الإذاعة والتلفزيون، ولا شك أن تنقله بين هذه المجلات والصحف المتنوعة قد أكسبه خبرات واسعة وأطلعه على مختلف الاتجاهات والتيارات، كما ساعده ذلك على الاتصال برموز الأدب والفن في مصر والعالم العربي، وهو ما مكنه من الوقوف على أسرار وخلفيات العديد من الأعمال الإبداعية.

رجاء النقاش والصحافة العربية

ولم تقتصر تجربة النقاش على الكتابة من خلال الصحافة المصرية، وإنما امتدت لتشمل العديد من الصحف العربية وكان له دور ريادي وفاعل في تأسيس عدد من المجلات والصحف المهمة؛ ففي عام 1978 م سافر النقاش إلى قطر وأسس جريدة الراية وعمل مديرا لتحريرها حتى عام 1981م، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة الدوحة الثقافية فوضعها على خارطة المجلات الثقافية الكبرى كمجلة الهلال المصرية ومجلة العربي الكويتية، وعاد بعدها لمصر ليتولى رئاسة تحرير مجلة الكواكب من جديد، وقد توجت رحلته في الصحافة ليصبح كاتبا في جريدة الأهرام المصرية منذ عام 1994 م وحتى وفاته عام 2008 م.

رجاء النقاش.. ناقد من الزمن الجميل

رجاء النقاش.. مسيرة حافلة وموهبة أدبية ونقدية

وخلال مسيرته الحافلة برزت موهبته الأدبية والنقدية فأظهر اهتماما كبيرا بالنقد الأدبي والفني متابعا ومحللا وشارحا، فكانت كتاباته إضافة حقيقية إلى حقل النقد الأدبي والفني؛ حيث اتسم نقده بالوضوح والسلاسة والبعد عن التعقيد والتكلف، وكان يتوجه بنقده إلى قطاعات وشرائح أوسع من تلك التي يقصدها الأكاديميون عادة في دراساتهم، كما أنه كان منفتحا على التيارات كافة مما مكنه من الاستفادة منها جميعا، ولا شك أن “موقفه من تيارات الثقافة المصرية والعربية المتباينة مسألة تستوقف من يتأمل سيرته ومنجزه الأدبي والنقدي، وهي دالة على شخصية رجاء النقاش ومنهجه الفكري وسمته الإنساني، فوسط التراشق والتنابذ والتناحر الذي تعيشه التيارات الفكرية المصرية والعربية منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى اليوم؛ تأتي كتابات رجاء النقاش لتقدم صورة نادرة من صور التسامح والإنصاف، ودعوة هادئة للحوار والتفاهم والجدال بالتي هي أحسن.” (د. فريد لطفي: الإمام المراغي في مرآة رجاء النقاش، موقع الدكتور حماسة).

اتساع الرؤية النقدية لدى رجاء النقاش

امتاز رجاء النقاش باتساع رؤيته النقدية فلم يتبنَّ منهجا نقديا معينا، ولم يقتصر اهتمامه على جنس أدبي بعينه؛ فقد كتب مقدمات نقدية لعدد من الدواوين الشعرية؛ من أبرزها مقدمته لديوان أحمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش وصلاح جاهين، كما عَرَّفَ بعشرات الشعراء من أجيال مختلفة من أبرزهم الشاعر الكبير أمل دنقل، وكان يتمتع بذائقة فنية عالية مكنته من اكتشاف أصحاب المواهب الحقيقية وتسليط الضوء على إبداعاتهم، وقد حظيت دراساته النقدية باهتمام النقاد والباحثين، ومن تلك الدراسات المهمة ما كتبه د. رجب أبو العلا عن منهجه في تناول الشعر تحت عنوان: نقد الشعر عند رجاء النقاش، وقد أكد في هذه الدراسة على أن النقاش سلك طريق النقد الأدبي ليعيد للثقافة دورها المفقود، وقد نجح بالفعل في إعادة العلاقة بين الجمهور وبين عالم الثقافة والفن والأدب، وأن النقاش قد سلك منهجًا علميًا في تحليله للنصوص الشعرية، وحرص على تتبع المراحل الفكرية والفنية المختلفة التي مر بها الشاعر، وإبراز مواقفه وأساليبه الفنية وتأثيره في حركة الأدب العربي.

رجاء النقاش.. ناقد من الزمن الجميل

رجاء النقاش والنقد الروائي

ولم يغب النقاش كذلك عن حقل النقد الروائي؛ فقدم عددا من الدراسات المهمة تناول من خلالها القضايا الموضوعية والفنية لأهم الأعمال الروائية؛ فكتب عن أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، وقدم رؤيته وشهادته حول هذه الرواية والجدل الدائر بشأنها، وكتب عن وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر، كما كتب عن ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، وكان نقده أقرب للتلخيص والتعريف بالعمل الأدبي والمصادر التي استقى منها الأديب مادته الروائية، ولا يخرج النقاش في نقده عادة عن هذين الأمرين: الأول استخراج المعايير الفنية والجمالية التي تميز النص الروائي، والثاني إبراز المضمون الفكري للرواية وقيمتها الموضوعية والقيمية، انطلاقا من إيمانه بالوظيفة الاجتماعية للأدب وبضرورة التعبير عن القضايا القومية والاجتماعية التي تعصف بالأمة، وكان النقاش في نقده يتمتع بذوق كبير مكنه من انتزاع مكانة كبيرة في مسيرة النقد الحافلة لدى القراء وشريحة واسعة من النقاد.

يقول النقاش: لست من المؤمنين بأن الأدب متعة خالصة لا هدف لها إلا أن نستمتع بها، ولست من المؤمنين بأن الأدب يمكن أن نفرض عليه وجهة نظر يعبر عنها، فلا يرى الأديب غيرها ويظل ملتزما بحدودها الضيقة، ولكنني من المؤمنين بأن الفنان الموهوب هو الذي يجمع بين القيمة الفنية العميقة، والقيمة الإنسانية الكبيرة.

أهم ما كتب رجاء النقاش

ومن أهم ما كتبه رجاء النقاش في باب النقد الروائي؛ دراسته المهمة عن رواية الطيب صالح: موسم الهجرة إلى الشمال، وكتاباه عن نجيب محفوظ الأول بعنوان: في حب نجيب محفوظ، والثاني بعنوان: نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، وهذا الكتاب عبارة عن أحاديث موسعة وعميقة تلقي الضوء على حياة نجيب محفوظ وأدبه، وكان محصلة لقاءات امتدت على مدار عام كامل بين النقاش ومحفوظ، وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يسلط الضوء على الأحداث والمواقف التي أسهمت في تشكيل رؤية نجيب محفوظ الفكرية والفنية، كما أنه ينتزع من نجيب محفوظ اعترافات كثيرة شديدة الأهمية يفيد منها دارس نجيب محفوظ بلا شك، خاصة إذا علمنا أن نجيب محفوظ كان قَلَّمَا يُدلي برأي أو تصريح حول أعماله الأدبية.

وليمة لأعشاب البحر

وفي دراسته النقدية: قصة روايتين؛ قدم النقاش تحليلا لرواية الكاتب السوري حيدر حيدر: وليمة لأعشاب البحر ورواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، وقد انصب اهتمامه في تلك الدراسة على إظهار أوجه الاختلاف والتشابه بين الروايتين، وهو يرد في هذه الدراسة على الاتهامات التي وجهت إلى الكاتبة الجزائرية بالسطو على رواية وليمة لأعشاب البحر، كما نفى النقاش أن يكون نزار قباني هو صاحب رواية ذاكرة الجسد، بحجة أن أسلوب الكاتبة في الرواية يشبه شعر نزار قباني، ويعزو رجاء النقاش السبب في ذيوع رواية ذاكرة الجسد على هذا النحو إلى نزوع الكاتبة إلى الأسلوب الشعري الذي ارتفع فوق لغة النثر. وكما هو واضح من منهج النقاش؛ فإنه يتوجه بنقده إلى شرائح واسعة من القراء ومن بينهم القراء البسطاء الذين لا خبرة لهم ولا دربة على قراءة الأعمال الأدبية، ومن ثم تجده يقوم بتلخيصها وتسليط الضوء على أهم القضايا التي تسترعي انتباههم واهتمامهم، وهذا نوع أولي من النقد خاصة إذا لم يتوقف الناقد عند هذا المستوى من التحليل.

رجاء النقاش والمسرح

وفي مجال المسرح كتب النقاش العديد من المقالات النقدية وقد جمعت فيما بعد في ثلاثة كتب وهي: شخصيات وتجارب في المسرح العربي، وفي أضواء المسرح، ومقعد صغير أمام الستار، وتظهر هذه الدراسات فهمه لطبيعة هذا الفن ومشكلاته، وبحثه الدائم عن حلول للخروج من كبواته، خاصة فيما يتعلق بالنصوص الأجنبية المقتبسة التي لا تناسب البيئة العربية أحيانا، ومن ثم فهي عرضة للفشل رغم أنها أعمال عالمية عظيمة لا يختلف عليها اثنان.

وفي التراجم قدم النقاش دراستين مطولتين الأولى عن عباس العقاد بين اليمين واليسار، تناول فيها حياة العقاد السياسية والحزبية وتأثيرها على أدبه ومواقفه، والأخرى عن رسائل الناقد المعروف أنور المعداوي إلى الأديبة الفلسطينية فدوى طوقان، وتكشف هذه الرسائل جوانب مهمة من شخصية المعداوي وتلقي الضوء على فنه ومنهجه النقدي، ومن ثم تعد هذه الدراسة شديدة الأهمية لمن أراد أن يقف على منهج المعداوي النقدي، ويتسم أسلوبه بالسهولة والوضوح والبعد عن التكلف في هاتين الدراستين وسائر كتاباته.

رجاء النقاش والقومية العربية

كان النقاش من المؤمنين والمدافعين عن القومية العربية، وقد تصدى في كثير من مقالاته للمناوئين لهذا التيار، وأبرزهم لويس عوض وتوفيق الحكيم وحسين فوزي، وقد جمعت هذه المقالات في عدد من الكتب، منها: في أزمة الثقافة المصرية، وأدب وعروبة وحرية، والانعزاليون في مصر، وتحلى النقاش في مقالاته بالموضوعية الشديدة واحترام مخالفيه ومناقشتهم بالحجة والدليل. يقول النقاش: حرصت كل الحرص على أن يكون الحوار والرد والمناقشة قائمة كلها على الحقيقة العلمية والنظرة العقلية الواضحة، أملا في الوصول إلى نتائج يمكن أن يكون لها جدواها في إزاحة الضباب الفكري الذي يحيط بالنفس العربية والعقل العربي، فالمفكرون الذين أناقشهم هنا هم موضع احترامي وتقديري، ولكنني أختلف معهم اختلافا واسعا في الرأي، وهذا الاختلاف هو الذي حاولت هنا أن أشرحه وأعرضه، مستندا إلى ما وصل إليه جهدي من أدلة علمية متعددة، تنبع كلها من إيمانٍ عقلي ووجداني عميق بالقومية العربية ووحدة الوطن العربي، وبأن مصر عربية وأنها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الواحد الكبير.

رحم الله الناقد الكبير والمثقف المصري المستنير رجاء النقاش، الذي أثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب المفيدة والنافعة، وكان إلى جانب ذلك شديد التسامح، بعيدا عن التعصب والتزمت المقيت، كما كان يؤمن بأن الأدب والإبداع ليسا حكرا على النخبة وصفوة القراء، ولكنه حق للجميع، وما أحوجنا إلى تمثل سيرته ودراسة منجزه الفكري والنقدي في هذه الأيام بالذات؛ حيث تتسع الهوة بين التيارات الفكرية المختلفة، وتتحول في أغلب الأحيان إلى حرب وتسفيه وتخوين لمجرد الاختلاف في الآراء ووجهات النظر.

د. وجيه يعقوب يكتب: رجاء النقاش.. ناقد من الزمن الجميل

د/ وجيه يعقوب

Exit mobile version