الملاريا مرضٌ يسبّبهُ طفيلٌ ينتقلُ إلى جسمِ الإنسانِ عنْ طريقِ لدغاتِ البعوضِ الحاملِ لهُ، ثُمَّ يَشرَعُ في التكاثُرِ في الكبدِ ويغزو الكرياتِ الحمراءَ بعدَ ذلك، “وَفْقَ منظمةِ الصحةِ العالمية”.
ذاكَ هوَ تعريفُ المرضِ الذي يقضي على مئاتِ الآلافِ سنويًّا، يَعلَمُ – الآنَ- القاصي والداني أنَّ “البعوضَ” هو ناقلُ المرض. لم يكنِ الحالُ كذلكَ قبلَ قرنٍ ونيِّف، فلسنواتٍ، ظلَّ العلماءُ يبحثونَ عنِ الناقلِ الرئيسيِّ للملاريا، فمعرفةُ ذلكَ الأمرِ يشكِّلُ اللَّبِنَةَ الأولى في القضاءِ على المرضِ الخطيرِ، الذي يَجثِمُ على صُدورِ نحوِ نصفِ سكانِ العالَمِ حاليًّا.
في الثالثَ عشَرَ من مايو عامَ ألفٍ وثَمانِمئَةٍ وسبعةٍ وخمسينَ وُلِدَ «رونالد روس»، الطبيبُ الإنجليزيُّ الذي تمكَّنَ منْ تحديدِ الروابطِ بينَ الملاريا والبعوض. في مدينةِ «المورا» الهندية، ترعرعَ «رونالد» صبيًّا، فقدْ كانَ والدُهُ جنديًّا في جيشِ الاحتلالِ الإنجليزيِّ، وحينَ أكملَ الثامنةَ منَ العُمرِ، أرسلَهُ والدُهُ إلى الوطنِ الأمِّ، وتحديدًا إلى مدينةِ «ساوثهامبتون» ليتعلمَ في إحدَى مدارسِها الداخلية. في سنواتِ عمرهِ الأولى؛ أظهرَ الفتى موهبةً في كتابةِ الشِّعرِ والرَّسمِ وتأليفِ الموسيقى، حتى إنَّ معلميهِ أطلقوا عليهِ لقبَ: “الفتى الحالم”.
حينَ أكملَ تعليمَهُ الأساسيَّ، اقترحَ عليهِ والدُهُ دراسةَ الطِّبِّ، وافقَ «رونالد» بسهولة، إذْ لمْ يكنْ لديهِ فكرةٌ عمَّا يجبُ أنْ يفعلَهُ، وفي عامِ ألفٍ وثمانِمِئَةٍ وأربعةٍ وسبعين، أصبحَ طالبًا في كليةِ الطبِّ بمستشفى «سانت بارثولوميو» بلندن. وبعدَ خمسِ سنواتٍ، حصلَ على إجازةٍ منَ الكُليةِ الملكيةِ للجرَّاحينَ، وبدأَ في ممارسةِ الطِّبِّ، قبلَ أنْ ينضمَّ عامَ ألفٍ وثمانِمِئَةٍ وواحدٍ وثمانينَ إلى الخدماتِ الطبيةِ التابعةِ للجيشِ البريطانيِّ، ويعودُ حيثُ المكانُ الذي وُلِدَ فيهِ: الهند، مُوطنَ الملاريا.
عندما كانَ «روس» صبيًّا صغيرًا في الهندِ، رأى الكثيرَ منَ المُصابينَ بالمرضِ الذي كانَ يقتلُ حينَها مليونَ شخصٍ سنويًّا في تلكَ البقعةِ وحدَها، حتَّى إنَّ والدَهُ أُصيبَ بالملاريا، التي كانَ يُطلَقُ عليها “ملكُ الأمراض”، إلا أنهُ تعافى بعدَها؛ وحينَ كانَ يدرُسُ في كليةِ الطبِّ بلندن، شخَّصَ «روس» حالةَ مريضٍ كانَ يشكُو منَ الصُّداعِ وآلامِ العضلاتِ والحُمَّى بأنهُ يعانِي منَ الملاريا، إلا أنَّ التشخيصَ لاقَى معارضةً منْ أساتذتِهِ، فقدْ كانَ المرضُ لا يُصيبُ إلا سكانَ البُلدانِ المداريةِ الحارَّة، في ذاكَ الوقتِ. أثارتِ “الملاريا” اهتمامَ «رونالد روس»، الذي تساءَلَ عنِ الأسبابِ التي تجعلُ الملاريا حِكرًا على البُلدانِ المدارية.
والملاريا، كلمةٌ إيطاليةٌ تعني الهواءَ الفاسدَ، منْ هنا كانَ الاعتقادُ أنَّ الداءَ يُصيبُ مَنْ يستنشقُ هواءً فاسدًا في البُلدانِ المليئَةِ بالمُستنقعات. سادَ ذلكَ الاعتقادُ لسنواتٍ طويلةٍ، حتى إنَّ الإنجليزَ أصبحُوا يعرفونَهُ بـ«حُمَّى المستنقعات» فيما أطلقَ عليهِ العربُ «البَرداءَ» نسبةً إلى الرعشةِ الشديدةِ التي تُصيبُ الشخصَ المُصابَ بهِ، كنتيجةٍ مباشرةٍ للحُمَّى. لمْ يستسلِمْ «روس» لتلكَ المعتقداتِ، وتساءَلَ عمَّا إذا كانَ استنشاقُ الهواءِ يُسبِّبُ الإصابة؛ فلماذا يُصابُ أشخاصٌ دونَ آخرين؟
في عامِ ألفٍ وثمانِمئةٍ وثلاثةٍ وثمانينَ، حصلَ «روس» على منصبٍ مكَّنَهُ منَ الإقامةِ في بيتٍ أنيقٍ، شيءٌ واحدٌ كانَ مثارَ إزعاجٍ للطبيبِ، فالبعوضُ يحومُ في جميعِ غُرَفِ البيتِ بأعدادٍ كبيرةٍ، ولا وسيلةَ مُكافحةٍ تُجدِي نفعًا معَ تلكَ الكائناتِ المُزعجةِ. وبروحِ العَالِم القادرةِ على المُلاحظةِ والتسجيلِ، راقَبَ الطبيبُ الإنجليزيُّ البعوضَ عنْ كَثَبٍ، ليُلاحظَ أنهُ يتجمَّعُ بمعدلاتٍ أكبرَ في طابقٍ بالمنزلِ يحتوي على حوضٍ مائيٍّ كبيرٍ. أفرغَ «روس» الحوضَ منَ الماءِ، فبدأتْ أسرابُ البعوضِ تقلُّ تدريجيًّا، ومنْ هنا بدأَ الاستنتاجُ؛ فمنَ المُمكنِ القضاءُ على البعوضِ نهائيًّا؛ إذا ما جرتْ إزالةُ أماكنِ تجمُّعِ المياهِ. سجَّلَ المَلْحُوظةَ ضمنَ دفاتِرِه، التي كانَ يستخدمُها أيضًا في كتابةِ مغامراتٍ صحفيةٍ عن رَحَلاتِهِ في أماكنَ متفرقةٍ في الهندِ، قصصٍ اكتسبَ بها شعبيةً طاغيةً، ككاتبٍ، وليسَ كطبيب.
عادَ «روس» إلى إنجلترا في عطلةٍ طويلةٍ قضاها في دراسةِ علمِ الجراثيمِ، الذي قدَّمَ لهُ فرصةَ استخدامِ المِجهرِ لتكبيرِ الأجسامِ الدقيقةِ، وهناكَ؛ تزوَّجَ سيدةً بريطانيةً تُدعى «روزا»، علمتْهُ الانضباطَ في عملِهِ البحثيِّ. وفي عامِ 1895، قابلَ الدكتورَ «باتريك مانسون» المتخصِّصَ في الأمراضِ المداريَّةِ، الذي أتاحَ لهُ مقابلةَ طبيبٍ فرنسيٍّ يُدعى «لافيران»، كانَ قدْ عادَ لتوِّهِ منَ الشَّمالِ الأفريقيِّ، وحَكى لهُ عنْ دماءِ المُصابينَ بالملاريا؛ وعنِ الطُّفيلِ «المتصوِّرةِ» الَّذي ظهرَ في الخلايا الحمراءِ لدمائِهم. دوَّنَ «روس» ملحوظَتَهُ، وتساءَلَ عنْ سببِ انتقالِ الملاريا منَ المرضى إلى الأصحَّاءِ، الذي يتنافى معَ الاعتقادِ السائدِ بأنَّ استنشاقَ الهواءِ الفاسدِ هوَ سببُ الإصابة.
حينَ عادَ إلى الهندِ، تزايَدَ اهتمامُهُ بملِكِ الأمراضِ، واقترَحَ وجودَ صلةٍ بينَ البعوضِ والملاريا، وبدأَ في تنفيذِ سلسلةٍ منَ الاختباراتِ لإثباتِ نظريَّتهِ، باءتْ تجاربُهُ بالفشلِ، وكتبَ إلى زوجتِهِ خطابًا أعلنَ فيهِ فشلَهُ في العُثورِ على الطُّفيلياتِ المُسببةِ للملاريا في البعوضِ، وأنهى الخطابَ بقولِهِ: «ربما لا أفحصُ النوعَ المناسبَ منَ البعوضِ، سأحاولُ مرةً أخرى».
لَعِبَ الحظُّ دورَهُ، فواحدةٌ منَ الصعوباتِ التي كانتْ تواجِهُ الطبيبَ الإنجليزيَّ وجودُ عددٍ منْ أنواعِ البعوضِ، وربما يكونُ نوعٌ واحدٌ فقط هوَ القادرُ على حَملِ الطُّفيلِ المُسبِّبِ للمَرَض. بالصُّدفةِ؛ عثرَ «روس» على نوعٍ منَ البعوضِ لمْ يسبِقْ لهُ مثيلٌ، سَمَّاهُ البعوضَ «منقَّطَ الجَناحين»، قرَّرَ إجراءَ تجارِبِهِ عليهِ، وفي أثناءِ وجودِ أحدِ المرضَى المُتعافِينَ حديثًا منَ الملاريا في عيادتِهِ، سمحَ «روس» لاثنين منْ ذلكَ النوعِ بمصِّ كميةٍ قليلةٍ منْ دماءِ المريضِ «حسين خان»، وبعدَ يومينِ، شرَّح إناثَ البعوضِ، وبالاستعانةِ بالمجهرِ الذي تعلَّمَ تقنياتِ استخدامِهِ في أثناءِ دراسةِ الميكروباتِ، لاحَظَ وجودَ خلايا غريبةٍ في معدتِها بقُطرٍ لا يزيدُ عن عشرةِ ميكرونات، كانَ ذلكَ كافيًا لإثباتِ وُجودِ «شيءٍ ما يستوجِبُ البحثَ لفَهمِهِ».
يحتفلُ العالَمُ كلَّ عامٍ بيومِ البعوضِ، الذي يُوافِقُ يومَ عشرين أغسطس، ذلكَ التاريخُ الذي قرَّرَ فيهِ «روس» تشريحَ أنسجةِ البعوضِ الذي أطلقَهُ على «حسين خان»، وهوَ اليومُ ذاتُهُ الذي تمكَّنَ فيهِ طبيبُ علومِ الأمراضِ الإنجليزيُّ «رونالد روس» منْ رؤيةِ خلايا المَعِدَةِ غيرِ الاعتياديةِ للبعوضِ الذي تغذَّى على دمِ مُصابٍ بالملاريا.
في عامِ ألفٍ وتِسعِمئةٍ واثنين، وبعدَ خمْسِ سنواتٍ منِ اكتشافِهِ الذي قَلَبَ موازينَ مُكافحةِ الملاريا، حازَ «رونالد روس» جائزةَ نوبل في الطبِّ، وقالتِ اللجنةُ إنَّ السببَ هوَ «عملُهُ على الملاريا، الذي ما فتِئَ يُظهِرُ كيفَ يدخُلُ الطفيليُّ إلى جسمِ الإنسانِ، ما يضعُ الأساسَ لبُحوثٍ ناجحةٍ تُسهِمُ في الحدِّ منَ الإصاباتِ ومكافحةِ المرض».
حصلَ الطبيبُ الإنجليزيُّ على عددٍ منَ الأوسمةِ، منْ ضمنِها: الوسامُ الملكيُّ منَ الجمعيةِ الملكيةِ البريطانيةِ، كما حصلَ على لقبِ «سير» منَ الملكةِ تقديرًا لجُهودِهِ في مُكافحةِ المرضِ وتطوُّرِ علمِ مكافحةِ الأمراضِ المدارية.
وَفقًا لما يَرِدُ في تقاريرِ منظمةِ الصحةِ العالميةِ، فإنَّ معدلاتِ الوفيَّاتِ الناجمةِ عنِ الملاريا انخفضتْ بنسبةِ سبعةٍ وأربعينَ بالمئةِ في الفترةِ الواقعةِ بينَ عامَي ألفين وألفين وثلاثةَ عشَرَ. ويكشفُ تحليلٌ جديدٌ النقابَ عنْ أنَّ معدلاتِ انتشارِ الطفيلياتِ قدْ قلَّتْ بشكلٍ ملحوظٍ، ما يعنِي انخفاضَ عددِ الأفرادِ الحاملينَ لعدوى المرضِ. تلكَ النِّسَبُ جاءتْ عبرَ استخدامِ طُرقٍ على رأسِها مكافحةُ البعوضِ وتطهيرُ مصادرِ المياهِ، وهيَ ثَمرةُ جهدِ «روس» الشاقِّ، فمن دونِهِ، لم يكنْ للعالَمِ أنْ يعرِفَ أنَّ للبعوضِ أثرًا جانبيًّا مُمِيتًا؛ وأنَّ القضاءَ عليهِ يُشكلُ المسمارَ الأولَ في نعشِ ملكِ الأمراضِ.. الملاريا.