المعركة ضد الشركات الزراعية العابرة للقوميات Agribusiness هي معركة ممتدة بطول العالم وعرضه، سواء منها شركات البذور، أو المبيدات الزراعية، أو الأغذية المهندسة وراثيا، أو الإنتاج الزراعي الكثيف، وهي معركة تمتد أيضا عبر التاريخ، إذ أنها معركة تتوازى مع المشروعات الاستعمارية الكبرى في العالم، حينما حولت القوى الاستعمارية النمط الزراعي في العالم من الزراعة المعيشية، التي ينتج فيها الفلاحون ما يأكلون وما يلبسون، ثم يتبادلون ما يفيض عن حاجتهم مع غيرهم، بنمط الزراعة النقدية، التي ينتج فيها الفلاحون الفقراء السلع الكمالية والترفيهية في مزارع واسعة كثيفة الزراعة لا يحصلون من العمل فيها إلا على الملاليم، بينما يتاجر أصحابها من كبار الرأسماليين في السلع المنتجة في البورصات العالمية ليربحوا الملايين. وعلى طول امتداد تلك المعارك تاريخا وجغرافيا، حارب الناس تلك الشركات، وسقط منهم ضحايا كثر.
فابيان توماسي Fabian Tomasi العامل الزراعي الأرجنتيني هو آخر تلك الضحايا التي سقطت في المعركة ضد شركات المبيدات الزراعية، حيث توفي يوم السابع من سبتمبر الجاري (2018) عن 53 عاما بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد في أواخر أيامه، فضلا عن إصابته باعتلال الأعصاب الطرفية polyneuropathy الشديد على مدار العشر سنوات الأخيرة من حياته نتيجة تعرضه كعامل زراعي للمبيدات الزراعية، وقد عرف فابيان على وجه الخصوص بكونه رمزا للمعركة ضد استخدام مبيد الجلايفوسات glyphosate المضاد للحشائش في الأرجنتين، حيث يستخدم ذلك المبيد على نطاق واسع. وهو المبيد الذي تنتجه شركة مونسانتو عملاق البذور والزراعة والمبيدات الزراعية.
اعتاد فابيان في إطار عمله ملء خزانات المبيد في الطائرات التي تقوم برش المزروعات المهندسة وراثيا التي تمتلكها تلك الشركة منذ تسعينيات القرن العشرين والتي تبلغ 44 مليون فدان في الأرجنتين بهذه المادة السامة، حيث كان يستخدم يديه العاريتين بشكل دائم في صب المبيد من الجراكن البلاستيكية في تلك الخزانات، مما تسبب في فقدانه للكتلة العضلية في جسده، ومن ثم، أصاب جسده نحول شديد وآلام مبرحة، وعجز جزئي في حركة ذراعيه نتيجة لذلك. وفي السطور التالية نقدم ما كتبه فابيان لجريدة “لا جارجانتا بوديروسا La Garganta Poderosa” في مارس 2018 حول حياته، ومرضه ونضاله:
Table of Contents
“أنا أخشى الموت”
منذ صغر سني، ولسنوات عديدة، عملت في الريف، حيث كانت تحلق طائرات صغيرة، محملة بالمبيدات الحشرية. أنا من بازافيلباسو Basavilbaso ، إنترى ريوس Entre Ríos، حيث تعلم الناس كيفية التغلب على انزعاجهم عبر كرنفال الطوافات العائمة. لكن لسوء الحظ، خلف الأضواء الملونة للكرنفال وعبر المراحل المهيبة، كل ما أستطيع رؤيته اليوم هو وجه أنطونيلا غونزاليز، تلك الفتاة الصغيرة التي ماتت بسرطان الدم في مستشفى جاراهان قبل أربعة أشهر. ولدت في جواليجوايتشو، قبل 9 سنوات فقط، وماتت، وهي ضحية لمبيدات الآفات، علم الأطباء ذلك، وكلنا عرفناه. كما نعرف أيضًا أن 55٪ من المرضى في مستشفى جاراهان بسبب السرطان هم من مقاطعتنا …الأكثر امتلاء بدخان المبيدات في البلاد، وواحدة من أكثر المناطق تسمما في العالم.
لم أشارك في أي حفلات من قبل، لأنني لم يكن لدي ما يكفي من المال، وخاصة الآن، لأنه منذ بعض الوقت، قاموا بتشخيصي باعتلال أعصاب سامة شديد، بنسبة خطورة 80 ٪. إنه يؤثر على كل جهازي العصبي ويبقيني مسجونا في منزلي. كان أول أعراض الألم في أصابعي، مما زاد سوءا بسبب حقيقة أنني كنت مصابا بالسكري وأعتمد على الأنسولين. بعد ذلك، أثر السمّ على سعة الرئة، وأُصيب مرفقي كما خرجت سوائل بيضاء من ركبتي. الآن جسدي ضعيف، ومملوء بالقشور، يكاد يخلو من الحركة في الليل، يصعب عليّ النوم، بسبب الخوف من أنني قد لا أستيقظ.
أخشى أن أموت.. أريد ان أعيش
ربما يكون هذا الخوف بمثابة درع، نوع من الأجسام المضادة، مثل الفكاهة. أو كما يساعدني هذا العدد الكبير من الناس حتى أتمكن من الكتابة، بدلاً من الهروب والبكاء، لأن المرض جعلني أفقد 50 كيلوغراماً من وزني، ورأيت الكثير من الناس يموتون نتيجة للتبخير بالمبيدات، لكن لا أحد يريد أن يتحدث. كان أخي روبرتو ضحية أخرى للأمطار الحمضية التي نشرتها طائراتهم الصغيرة، كان سرطان الكبد لا يرحم، لن أنسى أبداً عذابه. لن أنسى أبداً الاستماع إليه وهو يصرخ طوال الليل من الألم. توفي والدي بسبب هذا أيضا، مع هذا العذاب في عقله، يبتلع العجز بصمت وهو يراني على هذا النحو، لقد غرق في الغضب والخوف.
لا أريد أن أبتلع كلماتي. أريد الصراخ.
لقد دمرت العديد من المقاطعات الساحلية بسبب الجلايفوسات والمواد الكيميائية الأخرى، كما لو أنهم تعمدوا نسيان أننا كبشر لدينا تشابه وراثي بنسبة 70 ٪ مع النباتات. كيف كانوا يتوقعون أن يفعل بنا سمهم؟ لم يتوقعوا. ولهذا السبب عندما يبخرون، يبقى 20٪ فقط من المبيد في الخضار بينما يتطاير الباقي في الهواء الذي نتنفسه. هل تفهم؟ ليس كل شيء بريق ومتعة في أماكن مثل سان سلفادور (مدينة في Entre Ríos)، “بلدة السرطان”، حيث يرجع نصف الوفيات إلى السبب نفسه، وهناك، لم يصل الكرنفال أبداً… نعم، لقد تلقيت العديد من التهديدات بسبب رفعي للوعي حول ما يجعلوننا نأكله، وما نتنفسه ونشربه يوميا. لا يكفي أن نقول “أخرج مونسانتو”، لأن سلاسل الشر اليوم تمتد إلى بقية الشركات التي تبلغ قيمتها ملايين الدولارات وهي متشابكة في صمت. اليوم، لا يوجد مرض بدون سم وليس هناك سم بدون هذا التواطؤ الإجرامي بين الشركات متعددة الجنسيات، وصناعة الصحة، والحكومات ونظام العدالة. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج منهم أن يتوقفوا ويجب أن نقاتل من أجل هذا، حتى في أسوأ السيناريوهات لأن عدونا أصبح قوياً جداً …
هم ليسوا رجال أعمال، هم وكلاء للموت.