لا أحد يعرف معنى “متقاعد” سوى المتقاعدون أنفسهم، فبعد أن الواحد منهم يمارس عمله يوميا على مدى أعوام طويلة، يجد نفسه -فجأة- وقد أحيل إلى التقاعد، فأصبح بين عشية وضحاها يعيش في فراغ دائم، يصل به أحيانا إلى الاضطراب النفسي فيشعر أنه لا ينتظر شيئا فيما تبقى من حياته سوى النهاية المحتومة!
ولكن الحقيقة أن الحياة قد تبدأ -من جديد- بعد سن الستين، والدليل على ذلك هو آلاف السياح الأوروبيين الذين نراهم في العواصم العربية وهم يتصرفون وكأنهم “شباب على طول” فهم يستمتعون بوقتهم كأفضل ما يكون الاستمتاع ويعيشون حياتهم كما لو كانوا أبناء العشرين.
“ستيلا ريمنجتون” إحدى عميلات المخابرات البريطانية، أصدرت رواية “في مهب الخطر” بعد تجاوزها سن الستين، ولم تبدأ “ستيلا” العمل الأدبي إلا بعد تقاعدها في سنة 1996، فبدأت مرحلة جديدة من العمل في مهن عديدة كالإدارة، والمشروعات الخيرية، وبعدما انقطعت عن العمل أدركت حاجتها للراحة من الجهد المستمر، وبعدها تفرغت ستيلا لقضاء أغلب أوقاتها في كتابة الجزء الثاني من رواية “في مهب الخطر”، واستطاعت استغلال عملها السابق في المخابرات، في نسج أدق التفاصيل المتعلقة بالعلاقة بين أجهزة المخابرات الداخلية والمخابرات الخارجية، وتصف “ستيلا” حياتها الأدبية بالقول “حسناً لا يعني بلوغي بعد فترة قصيرة السبعين أنني قد شخت!” وتعتبر “ستيلا” نموذجا للإنسان الذي استطاع تغيير مجري حياته بعد التقاعد، ليحيى حياة سعيدة بعيداً عن الإحساس بفقدان القيمة والضياع في خريف العمر.
فصدمة التقاعد والإحالة للمعاش هي لا شك مرحلة صعبة يمر بها الإنسان، ويأتي ذلك بالأساس من التغير الشديد في حياة الإنسان بعد التقاعد؛ فبعدما كان يستغرق العمل كافة نشاطاته أصبح يواجه فراغا وطاقة كبيرة لا تجد متنفسا لها، ويؤكد على ذلك “أردومان بالمور” (أستاذ الطب النفسي بمركز دراسات الأسرة بجامعة روك بالولايات المتحدة) بالقول: “إن الفرد عندما يتوقف عن العمل، فإن كميات الطاقة الكبيرة التي كان يبذلها يومياً تتعطل ولا تجد مخرجاً لها، وهي في الوقت نفسه لا تندثر أو تتوارى، فإذا عجز الإنسان عن استثمار هذه الطاقة المعطلة، فإن ذلك سيؤدي إلى الاضطرابات العصبية والنفسية والعاطفية، وأيضاً الخلافات الاجتماعية” ومن هنا تصبح الحياة بالنسبة له مملة حتى الكآبة، وتتصاعد الأمور معه خاصة في ظل الزواج، فيشعر الزوجان المسنان بالإحباط نتيجة استغراق حياتهم في الكلام، لمجرد الكلام!
يشير عبدالعزيز بن علي الغريب (أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) إلى أن هناك حالتين بعد التقاعد، الحالة الأولى تشعر بالرغبة في الاستمرار في العمل لما بعد سن التقاعد، ويرجع ذلك لشعورهم بأنهم “طردوا من أعمالهم لا لسبب إلا لبلوغهم سن المعاش”، والحالة الثانية تقرر التقاعد قبل بلوغ السن القانوني، ويعتمدوا في هذا القرار على موارد أو مدخرات مالية لديهم، بالإضافة ما يوفره المعاش ويسعون في ذلك في سبيل الحصول على الراحة وقضاء أطول وقت مع أفراد أسرتهم.
ويشدد الغريب على إحساس المتقاعد بخسارة المكانة الاجتماعية التي كان يشغلها وهو ما يراه الغريب “مفهوم اجتماعي” فيصاب من جراء ذلك بعدم القدرة على التوافق الاجتماعي، وتغير في ظروفه المادية والعملية، فضلاً عن مواجهة أوقات فراغ طويلة، ويزيد منها شعور المتقاعد بضعف إمكاناته وقدراته بعد التقاعد، وإحساسه بأن المجتمع يرفضه، بالإضافة إلى تغيرات صحية وانحسار في العلاقات الاجتماعية، وعلى هذا يوصي المتقاعد كي لا يصل به الحال إلى الشعور بالانعزال عن الحياة، بضرورة “إعادة ترتيب أسلوب حياته أو البحث عن “أدوار بديلة” عن دور العمل، لينظم حياته، وإشباع كافة احتياجاته” ويستدعي ذلك مشاركة المجتمع ومساعدته في ذلك، من خلال تشجيعه على قضاء حياة التقاعد بصورة جيدة.
وقد تحدث الاضطرابات العاطفية بين الزوجين جراء الإحساس بعدم القيمة بعدما كانت له السلطة والكلمة في عمله، وفي ظل هذه الحالة يجد المتقاعد نفسه عاجزا عن تطوير وتنمية اهتمامته خارج نطاق العمل، وبحسب الدراسات النفسية فإن التجديد في الحياة بصفة دائمة كفيل بتحقيق السعادة، ولا يتأتى هذا التجديد دون رؤية واضحة للحياة بعد التقاعد بمشاركة الأسرة وبالتالي عليه التخطيط لهذه الحياة الجديدة من خلال إعداد قائمة بالأمور التي يحب ويتمنى القيام بها بعد التقاعد، مع الإقبال على ممارسة الرياضة والهوايات الخاصة التي يستطيع ممارستها بعد التقاعد.
ويساهم المتقاعدون بصورة كبيرة في توطيد العلاقة بأفراد الأسرة والتواصل مع أبنائهم والمحيطين بهم، فهي فرصة لبدء حياة جديدة، ولا يمكن للمتقاعد حينها التوقف أو انتهاء نشاطه، ويحدث ذلك من خلال التخطيط لبرامج أسرية وعائلية بعيدة عن حياة الملل والرتابة وأجواء المشاحنات والروتين، فحياة التقاعد مملة إذا لم يتم الاستفادة منها في تعزيز علاقاته بأفراد أسرته وأصدقائه، وبالتالي يقع على عاتق الزوجة أن تساهم في ذلك من خلال الصبر على زوجها بعد تقاعده وبقائه معها في المنزل، وعليها إدراك أن التقاعد فرصة كبيرة لتقوية العلاقة الزوجية، وذلك من خلال سعيها هي الأخرى للتخطيط معه لحياتهما الجديدة حتى لا تتحول إلى مشاحنات وخلافات أسرية بين الزوج والزوجة، من جهة وبينه وبين أبنائه من جهة أخرى.
ورغم ما قد يسهم به التقاعد من تحسين وتقوية في العلاقات الأسرية، إلا أن ذلك لا يمنع من حقيقة تصادم المتقاعد أحيانا مع أفراد أسرته، ويأتي ذلك بالأساس من أفكار سابقة له عن التقاعد، قد لا تأخذ في الحسبان هذه العلاقات، وتسير الأولوية في استغلال حياته الجديدة في العيش بحرية بعيدا عن روتين وقيود العمل، ويحدث التصادم من مساس هذه الحرية بالزوجة والأبناء؛ فيتذمر المتقاعد في حالة مواجهة مسؤولياته الجديدة في الأسرة، ومن ثم فعليه وضع اهتمامات أسرته ضمن حياته التقاعدية الجديدة من خلال تصحيح أوضاعه والاقتراب بصورة جيدة من زوجته وأبنائه، ومتابعة دراستهم في حالة إن كان لديه أبناء في الدراسة، وكذلك متابعة أبناء المتزوجين؛ إذ إن الاهتمام الجيد بزوجته وتوصيل رسالة لها بأن حياته الجديدة هي المحور الرئيسي فيها، وبالتالي لا عيب من مشاركتها أعباء المنزل لرفع معنوياتها، والتودد لها من جديد حتى تستمر حياته في سعادة وبهجة حقيقية يشاركه فيها كافة أفراد الأسرة.
هذا وقد وصل الحال ببعض العاملين في أوروبا السعي لطلب التقاعد المبكر أو العمل الجزئي، وهي ظاهرة جديدة والسبب في ذلك كما يراه الدكتور عبدالواحد الحميد إلى “التمتع بالحياة بعيداً عن ضغوط العمل بعد أن يحقق الإنسان قدراً معقولاً من الأمان المعيشي والمالي”، فالاستغراق في العمل يحول الناس لا إرداياً إلى ما يشبه الآلات التي تعمل بلا هدف أو غاية ومع الاستمرار في العمل بلا انقطاع دون السؤال لماذا؟، وبحسب الحميد فقد ظهر هذا الاتجاه نتيجة تطور تقنيات الاتصال الحديثة؛ فأصبح الإنسان قادرا على العمل من منزله أو حسبما تتيح له أوقات فراغه وارتباطاته، كذلك فقد أصبح الناس هناك على وعي كامل بأن التقاعد في سن متأخر يحرم الإنسان من التمتع بالحياة.. فما الفائدة من المال الكثير الذي يتوفر للمتقاعد وهو يعاني من أمراض الشيخوخة ومن ضعف العلاقات الإنسانية.
سعد قنديل