فأنْ تقلب الموازين رأساً على عقب .. فيفسد الذوق السليم، ويساء إلى الفضائل والقيم، فيبدو الذي يدّعي الإبداع نشازاً فيما يكتب، أو ينظم، أو يرسم، أو يرتدي، أو يتعامل، أو ينتج، على طريقة (خالف تُعرف) فهذا يمكن أن يقال عنه أيّ شيء إلاّ الإبداع.
فالشعر الذي يغطّ في المعمّيات والألغاز ..
واللوحات الفنّية التي لا يفهمها إلاّ رسّاموها ..
والكتابات التي تحتاج إلى مترجم لفك رموزها وطلاسمها ..
ليست من الإبداع في شيء حتى أن نسبت إليه زوراً وبهتاناً ..
فالإبداع لا يعني الغموض والتعقيد، وهذا كتاب الله بين أيدينا في إبداعه الفكري والأدبيّ والتربويّ والعمليّ لا يحدِّثنا إلاّ بلسان عربيّ مبيّن.
إنّ المجموعة الشعرية، أو معرض الرسوم أو أي إبداع آخر، إذا احتاجت إلى أن نرفق معها شاعرها أو فنّانها أو مبدعها ليوضِّح لنا ما المراد من إبداعه، قد تكون أشبه شيء بالكلمات المتقاطعة التي تحتاج إلى إعمال الذهن حتى يتم تركيبها بشكل صحيح، وقد يتعذر ذلك.
الإبداع .. الخروج على السائد والمألوف .. هذا صحيح .. لكن ليس أي خروج يعدّ إبداعاً .. فوضع الرأس موضع القدم في رسم اعتيادي لا يعدّ إبداعاً، لكن رسام الكاريكاتير الذي يضع الرأس مكان القدم ليصوّر انساناً ذليلاً، يقدِّم لنا إبداعاً فنّياً.
والطبّاخة الماهرة التي تبتكر طبخة ما من خلال محاولة التأليف والتجانس بين المواد الغذائية الداخلة في الطبخة .. هي طبّاخة مبدعة، لكن التي تضع المواد المتنافرة في الطعم والذوق والنكهة في القدر وتقول لنا أنّها تبدع طعاماً جديداً .. قد ترضي غرورها .. لكنها لا ترضي قناعتنا وأذواقنا.
وهذا يعني أنّ الإبداع ليس خروجاً على (القانون). بل هو خروج على (العادة) و (السائد) و (المألوف) و (التقليد).
ولذا يمكن القول أن للإبداع أخلاقاً ينبغي مراعاتها، فالذي يخترع أسلحة الدمار قد يكون مبدعاً في أنّه جاء بما لم يأت به الذين سبقوه، لكنه (ابتدع) ما يخرّب ويفسد ويحطّم وينشر الدمار والرعب ويحرق الحرث والنسل.
ومثله الذي يبتكر أساليب جديدة لغواية الشبان والفتيات في أساليب الموضة الماجنة الخليعة، ومواقع الإباحية الجنسية، ومجلاّت الإثارة.
ومثلهما النحّات الذي عندما يصنع تمثاله العاري في ساحة عامة يتفرج عليه الرائح والغادي، فإنّه يسيء إلى نظام الأخلاق والآداب العامة.
وقد يبدع شاعر، قصيدة في الهجاء تتضمن صوراً شعرية فريدة .. لكنّ تشويه صورة المهجو وتقريعه وتسقيطه على العلن .. إساءة لحرمة ذلك الإنسان.
وباختصار، فإنّ المخالفة لا تمثِّل إبداعاً إذا كانت خروجاً عن حدود الأدب، واللياقة، والذوق، والعرف الاجتماعي المحترم، أي أنّ فيها إساءة لحياة وقيم وأخلاق الفرد والمجتمع.