العالم مدين لهذا الرجل.. ما لا تعرفه عن قيثارة الحظارة ومعلم أوروبا الأتيكيت
كان الشرق وجهة الراغبين في الجمال والأناقة، وكانت بغداد يوماً ما، حاضرة الثقافة والفن والرفاهية، وزخرت القصور بكل ألوان الطعام والشراب والثياب والعطور والتحف، وانتقلت منها إلى أوروبا، فاتجهت الأنظار الآن إلى باريس وروما، لمتابعة أحدث صيحات الموضة.
وبالعودة إلى أكثر من ألف سنة، كان هناك أحد أبرز الأسماء التي لمعت في سماء الأندلس وأوروبا، عرفه الناس فناناً شاملاً، وموسيقياً بارعاً، وعالماً بفنون الثياب، وألوان الطعام والشراب، وتنسيق المائدة، إنه زرياب.
الأندلس على موعد مع زرياب
ولد أبو الحسن علي بن نافع في بغداد عام 161هـ، ويقال أن والده كان من موالي الخليفة العباسي المهدي، وسمي زرياب، وتعني الطير الأسود جميل الصوت، لسمار لونه وصوته الجميل.
ويختلف المؤرخون حول منشأ زرياب الأصلي، بين من يقول أنه من أكراد العراق، وبين من ينسبه إلى النوبة في جنوب مصر.
كان زرياب موهوباً بحق، تعلم فنون العزف والغناء على يد إسحاق الموصلي، صاحب مدرسة في الفن والغناء في الموصل، والمقرب والمفضل لدى الخليفة العباسي، هارون الرشيد.
وحين طلب الخليفة الرشيد من إسحاق، أن يعرض عليه مواهب شابة وجديدة، ذكر له إسحاق تلميذه زرياب، ومدح فنه وسرعة تعلمه، فطلب الخليفة رؤيته والاستماع إليه.
قدِم زرياب إلى بلاط الخليفة وأسمعه أغاني معلمه، بعد أن وضع لمسته الخاصة عليها، ثم أسمعه غناءً جديداً خاصاً به، فانبهر الرشيد وطار عقله من جمال الصوت وإبداع اللحن، واستنكر على إسحاق الموصلي إخفاءه لهذا الفنان المبدع!
وعند هذا الحد، كانت الغيرة قد اشتعلت في قلب الموصلي، ولم يُخفِ الرجل ذلك، بل صرّح بها لزرياب، وطلب منه مغادرة بغداد، وإلا فإن حياته مهددة بالخطر، لأنه لن يقف متفرجاً عليه وهو يفوقه ويحتل مكانته لدى الخليفة.
وهنا كانت الأندلس على موعد مع الرجل الذي سيحمل إليها الترف والمخمل وشذى العبير!
خرج زرياب، بمساعدة الموصلي نفسه إلى المغرب العربي ومنه إلى قرطبة، فقدم على الخليفة الأموي عبد الرحمن الثاني “الأوسط”، الذي رحب به ترحيباً شديداً، وأنزله في دار جميلة مؤثثة ومهيأة بكل سبل الراحة، ودعاه إلى قصره، واستمع إلى غنائه فأثار زرياب إعجابه، وانبهر الخليفة بعلمه الغزير في فنون الموسيقى، وإلمامه بقواعدها، بل وبغزارة علمه في الجغرافيا والتاريخ وعلم الفلك وعلوم الطبيعة، فقدمه على من سواه من المغنين والشعراء، وخصص له راتباً شهرياً قدره مائتا دينار ذهبية، ومبلغاً شهرياً قدره عشرون ديناراً لكل ولد من أولاده الذين جاؤوا معه.
كذلك خصص له مبلغاً سنوياً قدره ثلاثة آلاف دينار تهدى له في الأعياد، بالإضافة إلى عدد من الدور والبساتين، قُدرت وارداتها السنوية بأربعين ألف دينار!
مغني القصور
يعرف غالبية الناس زرياب الموسيقي، مغني القصور، ويسمع كثيرون عن عود زرياب، الذي لم يكن يشبه غيره، ولا حتى عود معلمه إسحاق، إذ كان مثلما وصفه زرياب للخليفة هارون الرشيد يوم لقائهما، أخف وزناً.
كذلك المادة التي صنعت منها أوتار عوده تختلف عن المواد التي تصنع منها الأوتار الأخرى؛ إذ صُنعت من الحرير، وأمعاء شبل الأسد، فكانت ألحانه أدق وأرق، كما استبدل الريشة الخشبية التي كانت تستعمل عادة، بريشة من مخلب النسر، وساعده ذلك في ضبط النغمات والألحان.
أنشأ زرياب أول “كونسرڤتوار” في العالم، فقد افتتح معهداً في قرطبة، لتعليم أصول الغناء والموسيقى، وقواعدهما، التي لا يزال بعضها يدرس في العالم كله حتى الآن!
وضع زرياب شروطاً صارمةً للقبول، ومناهج متقدمة على ما كان يعرفه العالم وقتها، فصار قبلة لكل من يبحث عن صقل موهبته، من العرب والمسلمين، وحتى الأوروبيين، الذين ارتحلوا إلى الأندلس لينهلوا من علم زرياب.
“فاشينيستا” الأندلس وأوروبا الأول
تجاوزت إسهامات الرجل الموسيقى والغناء، إن جاز التعبير، إذ إنه يعد “فاشونيستا” الأندلس وأوروبا الأول!
وذلك بحسب التعبير الحديث والدارج في يومنا هذا، والذي يطلق على من يرشد الناس إلى أساليب الحياة الحديثة والمرفهة، ويعلمهم أصول الزينة وارتداء الثياب، وأصناف المستحضرات المختلفة واستخداماتها.
هذا ما فعله زرياب في وقت مبكر جداً من التاريخ، وقبل أن تعرف أوروبا الموضة وأنواع الثياب والزينة، وحين كانت “بغداد” هي باريس الجمال والأناقة والرفاهية في وقتها!
أتيكيت زرياب
إذ نقل زرياب كثيراً من رغد ورفاهية قصور بغداد إلى الأندلس، وراح يعلم الناس كيف يلبس الناس في بغداد، وماذا يأكل الناس في بغداد، وأي عطور يضعها أهل بغداد، وكيف يقص رجالها شعورهم، وماذا ترتدي نساؤها.
وتعلم الأندلسيون كذلك من زرياب، ارتداء ملابس تناسب كل فصل من فصول السنة؛ فارتدوا الملابس البيضاء القطنية الخفيفة في فصل الصيف، وارتداء الملابس الحريرية الزاهية والملونة في فصل الربيع، والفراء والأقمشة الثقيلة الداكنة في فصل الشتاء، وقبله لم يكن الناس يحسنون ذلك التمييز.
ولم يكتفِ بهذا النقل وحسب، بل ابتكر قواعد المائدة المعروفة حتى عصرنا هذا، التي تبدأ بالحساء والمقبلات، ثم الطبق الرئيس الذي يحوي اللحوم أو الأسماك، ثم الحلوى، بل وابتكر الرجل أنواعاً من الحلوى، وينسب بعض المؤرخين حلوى “الزلابيا” إليه، و يرجحون أن الاسم هو تحريف لـ”زرياب” أو “زريابية”.
كما علم الناس استخدام الملاعق والسكاكين لتقطيع الطعام وتناوله، بدلاً من استخدام الأيدي، وأخذ عنه الناس استخدام الكؤوس والأواني المصنوعة من الزجاج، بدلاً من تلك الذهبية والفضية، أو الخشبية، وإدخال الخضراوات المختلفة إلى أطباقهم، مثل الهندباء والكمأة.
وعلم الرجل الناس فنون الكلام والحوار، وآداب الحديث، ونبرة الصوت مثلما يتحدث ويتسامر أهل القصور، وصفوة القوم في بغداد، وأدخل لعبة الشطرنج والنرد إلى قصور النخب، ومنها إلى العامة.
وماذا أيضا؟
تعلم أهل الأندلس من زرياب، الرجال منهم والنساء، قصات الشعر وطرق تصفيفه، فبعد أن كانوا يتركون شعورهم مسترسلة على أكتافهم، ومفروقة من المنتصف وتغطي جباههم وأصداغهم، تعلموا من زرياب وأولاده وبناته، تصفيف شعورهم وتقصيرها، ليظهروا الحاجبين والعنق والأذنين، وابتكر “شامبو” لتنظيف الشعر مكوناً من ماء الورد والملح.
وابتكر زرياب معجوناً لتنظيف الأسنان، نجح وانتشر انتشاراً واسعاً في الأندلس، ومنها إلى أوروبا، ولم يعرف أحد على وجه الدقة مكوناته، ولا طريقة صنعه، ويبدو أن زرياب أخفاها عن الجميع.
كما ابتكر مادة للتخلص من رائحة العرق، ويرجع الفضل إليه في انتشارها في أوروبا في بداية القرن التاسع عشر، وكان زرياب يضع كثيراً من المناديل والمناشف على طاولته، ولا يخلط بينها، فما يمسح به وجهه، لا يمسح به عنقه أو يديه، واقترح على النساء حمل مناديل مطرزة ومعطرة بيضاء أو ملونة.
هذا الرجل نقل إليها أناقة الشرق ورغده في ذلك الوقت، ووضع لها أسساً في مجالات الفن والأزياء والتجميل والأثاث، لا تزال تعتمد عليها حتى الآن.
العالم كله مدين لهذا الرجل.. ما لا تعرفه عن قيثارة الحظارة ومعلم أوروبا الأتيكيت