حل مشكلة الاحتباس الحراري
إمكانيات ضعيفة قابلتها عزيمة قوية، جعلت من 13 قرية بمحافظة البحيرة في مصر قرى “صديقة للبيئة”. مشهد بديع، وطبيعة ساحرة، وجو عفوي بعيد عن التكلف عشته مع أهالي قرى البحيرة لمدة يوم كامل، شاهدت خلاله أعمالا بيئية فريدة ومتميزة، ربما لم تحظ بها كبرى مدن مصر.
أجج الفكرة المهندس سعيد الغرباوي مهندس زراعي وابن قرية الغرباوي، القرية الرائدة لهذا العمل البيئي، فقد استلهم الفكرة من زيارة لدولة كينيا في أثناء فترة عمله كعضو مجلس إدارة جمعية المحافظة على البيئة وتنسيق الزهور في مدينة مومباسا. قال: “بالرغم من الإمكانيات الضعيفة التي شاهدتها في كينيا فإن البيئة خلابة وملهمة، وأنا على يقين من أن التنمية البيئية هي مدخل لأي تنمية أيا كان نوعها”.
بعد عودته من كينيا عام 2000 جمع أهالي قريته الصغيرة التي يبلغ تعداد سكانها 2000 نسمة، لينقل لهم خبرته وتجربته، من أجل القيام بعمل بيئي غير مسبوق في مصر.
بسواعد أهالي القرية، وبالإمكانيات البسيطة المتاحة من رمل وماء وفأس، بدأ العمل الجماعي عام 2003 بتنظيف الشوارع والحارات في القرية، وتعليق سلال للمهملات بين كل بيتين، وتشجير الشوارع.
وكانت هناك أعمال فردية يقوم بها أصحاب كل منزل، بإقامة حديقة صغيرة تضم أزهارا ونباتات زينة، أو نباتات مثمرة يستفيد منها أهل البيت في سد احتياجاتهم من الغذاء.
وأبدع أهالي القرية في إنشاء حدائق جدارية بوضع أصص النباتات على رفوف خشبية معلقة على الجدران، وحدائق أخرى معلقة في الهواء بمد خيط نايلون شفاف وتعليق نباتات الزينة عليه فتبدو كأنها معلقة في الهواء.
وطبقت قرية الغرباوي قانونا داخليا يمنع التدخين في القرية، وفرضت غرامة على من يدخن أو من وجد داخل بيته أثر للتدخين كأعقاب السجائر مثلا، والطريف أن هذه الغرامة ليست مالية، بل أهلية وذلك بدعوة 12 فردًا من أهالي القرية على مأدبة غداء.
بعد شهرين من العمل البيئي المثمر ذاع صيت القرية ووصلت أصداء هذا العمل إلى محافظ البحيرة، فقام بزيارة القرية وجلس مع الأهالي ليسمع منهم تجربتهم البيئية الرائدة، وكان أول تمويل للقرية من المحافظة.. مليون جنيه مصري (الدولار الأمريكي يعادل حاليا 5.4 جنيهات مصري) لرصف شوارع القرية كلها.
وطلب المحافظ من المهندس سعيد تطبيق هذه التجربة التنموية على مستوى قرى البحيرة. تلك المحافظة التي تتمتع بموقع إستراتيجي مهم؛ فهي تقع بين فرع رشيد شرقا، ومحافظتي الإسكندرية ومطروح غربا، والبحر المتوسط شمالاً، ومحافظة الجيزة جنوبا؛ وتبلغ مساحتها 9121 كم2، ويغطي القطاع الريفي 62% منها.
وبالتنسيق بين المحافظ ورئيس جهاز بناء وتنمية القرية المصرية التابع لوزارة التنمية المحلية في القاهرة، تم الاتفاق على إطلاق تسمية القرى الصديقة للبيئة على القرى التي تقوم بأعمال جادة ومستمرة للحفاظ على البيئة.
وبدأت القرى تتنافس سعيا للحصول على اللقب، وبدأ العمل وفقا لنظام محدد، مما سهل على المهندس سعيد نقل الخبرة لـ 12 قرية أخرى من قرى البحيرة، فتم اختيار مسئول في كل قرية يتولى التنسيق مع السلطة التنفيذية ومعه عدد من “القيادات الطبيعية” التي تباشر تنفيذ المشاريع البيئية الصغيرة.
يتم اختيار أشخاص من ذوي السمعة الطيبة في القرية مشهود لهم بكفاءة وفاعلية تجعلهم يؤثرون في الناس، وقد اصطلح على تسميتهم “قيادة طبيعية”؛ لأن لديهم استعدادًا طبيعيًا لعمل الخير، تقول وجيدة علي مدير عام تنمية القرية بمحافظة البحيرة: “القيادات الطبيعية لديهم استعداد رباني لعمل الخير وخدمة البلد بدون مقابل وبدون النظر لمنصب سياسي، حيث يمكنهم القيام بالعمل التطوعي دون أي غرض، بخلاف القيادة الشعبية المنتخبة أو التنفيذية المعينة”.
ومن أبرز القيادات الطبيعية في قرية المجد التي حصلت على لقب صديقة للبيئة، السيدة نوال محمد الششتاوي التي تشرف على أهالي القرية في مشروع لفرز القمامة، قالت نوال: “كنت مسئولة عن تعليم سيدات المنازل وتوعيتهن في كيفية فرز القمامة من داخل المنزل، وذلك من خلال ندوات ومحاضرات، كانت تجرى في قاعة الاجتماعات بالقرية، وكانت القاعة تحوي في بعض الأحيان 1000 شخص ما بين شباب وسيدات وأطفال”.
“بأقل الإمكانيات نبيع قمامة بالألوفات”، هذه العبارة رددها أحد أهالي قرية كوم الحاصل أحد القرى الصديقة للبيئة، قال مصطفى وهو مأمور ضرائب سابق ويعمل في مشروع فرز القمامة في قرية كوم الحاصل: “حصلنا على 2600 جنيه مصري نتيجة بيع 26 سيارة محملة بالقمامة، حيث نتقاضى 100 جنيه عن كل سيارة محملة بالمواد العضوية من القمامة، وقمنا أكثر من مرة ببيع مواد أخرى صلبة لأصحاب الخردة”.
وبمساعدة مكتب الإرشاد الزراعي في القرية يتم تحويل المواد العضوية إلى سماد عضوي يباع إلى المزارعين.
ويوضح المستشار الدكتور خيري الكباش أستاذ قانون حقوق الإنسان ورئيس جمعية الحمد الإسلامية للتنمية في قرية المجد، والمسئول عن تنفيذ التجربة في القرية: إن عملية فرز القمامة تتم من داخل البيوت؛ إذ تقوم جميع ربات البيوت بتجهيز سلتين قمامة بإمكانيات متواضعة لتجميع النوعين من القمامة، بحيث تضع المواد الصلبة وحدها والعضوية وحدها، ثم يمر جرار به مقطورتان واحدة لكل نوع من المخلفات ويتجه لمقلب مجمع توضع فيه القمامة بنوعيها.
نالت قرية “كوم الحاصل” منحة دنماركية لشراء جرار ومقطورة وكساحة لفرز القمامة، وتقول الحاجة وجيدة: “عندما نجد أهالي القرية لديهم استعداد جيد للعمل البيئي، نقوم بالاتصال بالجهات المانحة لتوفير بعض الاحتياجات المادية مثل جرار للقمامة أو أدوات خاصة بالنظافة لبعض الجمعيات النشطة داخل القرى، أو ماكينة لكبس قش الأرز للقضاء على ظاهرة حرق القش المنتشرة في مصر”.
وهناك حل آخر لقش الأرز يقوم به أهالي قرية الزمارنة صديقة للبيئة، إذ ينفذون مشروعا لتحويله إلى علف حيواني بديل للتبن.
ومن المشاريع الجديدة أيضا في قرية العلامية، فصل النفايات الطبية الخطرة كالحقن والقطن المستعمل، وذلك لمنع نقل العدوى إلى فارزي القمامة.
وآخر التجارب التي تحاول قرية الغرباوي تطبيقها “حفاضات الحيوانات”، تجربة جديدة وطريفة لم يستوعبها أهالي القرى بعد، حيث يتم وضع “كيس بلاستك” يعلق في مؤخرة الحيوان ليجمع فيه الروث.
على الرغم من الجهود التي حققتها الأجهزة التنفيذية بالتعاون مع الأجهزة الشعبية في 13 قرية من قرى محافظة البحيرة في مصر، فإن هناك 8 قرى لم تستجب لمحاولة التغيير والتنافس على لقب “صديقة للبيئة”.
ويفسر الغرباوي عدم استجابتهم إلى أن فلسفة العمل الجماعي كانت غائبة بين أهالي تلك القرى، قائلا: “النزاعات بين العائلات والجمعيات الأهلية هي السبب في هدم أي عمل جماعي”.
كذلك، وعلى الرغم من الجهود المتميزة التي شاهدتها في القرى الصديقة للبيئة، فإن المشهد لم يخلُّ من نفايات وورق متطاير، وقشر برتقال متناثر على الأرض، وعلى الجانب الآخر من ضفاف النيل سيدة تغسل الأواني في مياه النيل.. كل هذه المشاهد كان يعلق عليها المهندس سعيد أثناء جولتنا الميدانية، فكان الأهالي يهرعون لتنظيف المكان سريعا كي لا يحرموا من اللقب.
ويفسر هذه المشاهد المستشار الكباش بقوله: “إنها ثقافة ماضية تراكمت وطغت، فأصبحت العين ترى الشيء القبيح وتعتاد عليه، وتسمع الشيء القبيح وتعتاد عليه، ولابد أن نعود أنفسنا ألا ترى أعيننا إلا الجمال وألا تسمع أذننا إلا ما هو جميل وألا يتحدث اللسان إلا بكل جميل، وكل هذا يحتاج إلى بيئة جميلة”.
عن إسلام أون لاين