في إطار اللقاءات الشهرية التي دأب منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين بالمغرب على تنظيمها، ألقى الدكتور محمد خمسي، أستاذ علم الرياضيات والبوليتكنيك، محاضرة علمية حول موضوع “بعض الشروط التاريخية لنهضة علمية” مؤخرا، حضرها نخبة من المثقفين والباحثين.
وعلى الرغم من محاولة الباحث تقديم مؤشرات أولية على أن طبيعة عرضه العلمي هي محاولة متواضعة بالاقتصار على ذكر “بعض” في عنوان المحاضرة، فإن عمق القضايا والإشكالات التي أثيرت جعل المشاركين يلحون على تطوير الجهد العلمي ليكون مشروع ندوة علمية يشارك فيها متخصصون من كل العلوم، سواء الشرعية أو الدقيقة أو الاجتماعية أو السياسية لبلورة تصور إسلامي حول المدخل المنهجي لاستعادة مجد الأمة العلمي والانخراط في التقدم العلمي الراهن.
وجاء تأكيد الباحث ضرورة تصالح العلم والإيمان أسوة بتجربة “بيت الحكمة” في العصر العباسي، ليحفز الحضور للقطع مع الاغتراب الحضاري والحاجة إلى المساهمة في بناء حضارة إنسانية قائمة على حضور القيم والأخلاق في البحث العلمي ليكون بنّاء لا تدميريا، فمقتضى “التناصر العلمي” على مستوى الجوار المحلي والإقليمي للمحيط، كما يقول الباحث، يدعو القائمين على شئون الأمة لتحديد العلاقات الأساسية لبناء التكتل في مجال البحث والدراسة العلمية، وتقوية شروط الانسجام بين عناصر الجوار والرفع من وتيرة السير في هذا العالم بحسن طرح السؤال.
وفي مستهل عرضه العلمي أشار الباحث إلى أهمية إدراك الشروط التاريخية لتحقيق النهضة المنشودة في ظل العولمة والتطور السريع، الذي جعل الإنسانية تعيش خطا تاريخيا واحدا يفرض على الأمة الإسلامية الانخراط فيه بطرح السؤال حول الغاية من البحث العلمي واستعمال “لماذا” لإيجاد نتائجه بدل اقتصار البحث العلمي لدى العقل الغربي في البحث عن “كيف ومتى”.
فالعالم الذي نعيشه اليوم، يقول خمسي، بقدر ما ينكمش وتقل فيه تأثيرات الأبعاد الجغرافية بقدر ما تزداد فيه سرعة التطور بفعل عوامل التسريع، عبر أجهزة نقل المعرفة والصورة والمعلومات والأشياء، مما يدفع البشرية أن تعيش تحت قانون السرعة وتقليص الأحجام واختصار المسافات في جميع أوجه النشاط البشري، وهذا الأمر تجاوز عالم الأشياء وبدأت تظهر آثاره في عالم الأشخاص وعالم الأفكار، وهو أمر يعبر عنه بروح العصر التي نلمسها عبر اتجاهات الدوافع الخطية الجديدة.
ويشير الباحث إلى أن المقتضيات الداخلية والخارجية تطالبنا بتحديد واجبنا نحو هذا العالم، وشروط انسجامنا مع ضرورة السير العام للتاريخ والتأثير فيه والمساهمة في بناء أسئلته وعقلنة الاشتغال في مجال البحث العلمي، وتطعيم مجالات الاهتمام فيه بما ثبت تاريخيا من قيم إنسانية وحضارية، مثل قيمة حق الحياة والكرامة الإنسانية والعدل والسلم.
أما مقتضى الداخل، يوضح خمسي، فيتطلب تحديد الطاقات التي يمكن توظيفها من أجل المحافظة على المميزات وعناصر القوة في الداخل، والمساهمة في هذه اللحظة التاريخية بالإجابة عما أصبح تحديا وقاسما مشتركا في الوجود البشري، مثل سؤال البيئة أو شروط السلم العالمي والحد من توسع الهشاشة الاجتماعية ودائرة الفقر؛ إذ لا يمكن معالجة هذه القضايا اعتمادا على الإمكانات الداخلية؛ لأنها قضايا نسقية تمتد جذورها إلى أبعد من كل حدود داخلية.
ويعتبر محمد خمسي أن تصور نهضة علمية بدون قراءة للتاريخ يكاد يكون عملية شبه مستحيلة؛ لأن قراءة التاريخ في هذا المجال شرط أساسي في استعادة بعض الإمكانات وتوفير بعض الفرص، ولو في الحد الأدنى، قصد الالتحاق بهذا التاريخ والاندماج في سيره.
وبهدف توفير الشرط التاريخي لفت الباحث إلى إعادة قراءة المراحل الكبرى في تحليل تاريخ العلم والتي حصرها في أربع مراحل، وهي: مرحلة “العلم الكلاسيكي أو التقليدي أو التأسيسي”، ومرحلة “العلم الحديث والنظريات الكبرى” ومرحلة “العلم الصناعي كثافة استعمال التقني”، وأخيرا مرحلة “علم العوالم أو البحث في مناطق التماس”.
وبعد معالجة كل محطة من المراحل السابقة، أكد خمسي أن تحقيق النهضة العلمية يفترض الارتكاز على ثلاثية رئيسية هي: توفر نخبة من العلماء (إرادة ذاتية)، وجماعة أو مجتمع يحتضن العلماء (مؤسسات سياسية)، وبيئة علمية (بعد اجتماعي وثقافي).
غير أن الباحث أضاف إلى الشروط السابقة مجموعة قواعد إجرائية لتدعيم الثلاثية السابقة؛ لأن بلدا قد يصل إلى مرحلة وجود “مجموعة من العلماء”، وقد توجد فيه “جماعة علمية”، ولكنه قد لا يتحول إلى “مجتمع علمي”؛ ولذا يشدد خمسي على وجود آليات أخرى مصاحبة، وهي: “المؤسسات الخاصة بالعلم”، “معرفة طريقة الاستقبال وتملك العلم”، “إدراك التفاوت التاريخي لدى البشرية في تحصيل وإنتاج العلم”، و”تمكين المجتمعات من المعرفة العلمية وإحداث التقاليد الخاصة بها”، ثم بلورة ما أنتجته علميا تطبيقات عملية تخدم القيم وتبني العمران البشري ولا تدمره.
ولتأسيس الشروط العلمية والتاريخية للنهضة العلمية، أورد الباحث اثني عشر شرطا تربويا من أجل بث الروح في بيئة البحث العلمي وإنتاج نواة مجتمع علمي، وذكر منها: إيجاد بيئة الخيال والحرية المسئولة، والتحلي بالتواضع مع ضمان الاحترام والتقدير، والعمل بمبدأ صياغة الفرضيات دون التشبث بها، والتكتل ضد محاولات التفريق والتفرق والتصدي للروح السلبية وفقدان الثقة.
ومن الشروط التربوية أيضا: ضرورة تفعيل قنوات التواصل بين المتخصصين واستثماره لإنتاج فكر علمي متنوع، وضمان حق الفئة المهتمة بالبحث العلمي في توجيه سياسات المؤسسات العلمية والثقافية والفكرية، ونزع فتيل الخصومات التي يشعلها البعض بين الدين والعلم، وذلك بإعادة قراءة التراث العلمي والوعي بقضاياه الفكرية المتشابكة.
وفي سياق حديثه عن البعد التربوي للنهضة قال خمسي: إن ما حققه المسلمون في العصر العباسي من خلال تجربة “بيت الحكمة” يمثل نموذجًا يجب الاحتذاء به، فالتجربة رسخت تكامل العلوم و”تعاون الفقيه والسياسي”، فلم يكن المشتغل بقضايا الآخر ينعت بأنه “كافر” أو غيرها من التوصيفات التي تزرع فتيل الصراع بين الدين والعلم، ولهذا وجدنا عدة ترجمات لكتاب واحد من اليونان أو الفرس، ولم يكن هم صاحب الترجمة مرهون بالمقولة الشائعة في عصرنا: “كم سأُمنح من مال إن ترجمت هذا الكتاب؟”.
ونبه خمسي إلى أن البحث العلمي لا يحتاج إلى قوة مادية لينتعش ويتطور، بل يطلب فقط توفر إرادة ذاتية لدى النخبة العالمة ومجتمع وسلطة حاضنين، فالقوة لم تساعد “المغول لبناء حضارة، بل إن ثقافة الإسلام هي التي احتضنتهم برغم قوتهم، ولهذا جاء التحذير الغربي من العدو الأخضر؛ لأنه يملك ثقافة مستوعبة للآخر كيف ما كانت قوته”.
وبناء على عناصر خطة عالم الفيزياء المصري علي مصطفى المشرفة (توفي سنة 1950) في تملك العلم وبناء قواعد البحث العلمي، خلص الباحث إلى التأكيد أن تفعيل شروط النهضة يتطلب “بناء شبكة غير رسمية تتمتع بالمرونة من أجل نسج نواة مجتمع علمي، وتشجيع الترجمة إلى العربية لتكوين مكتبة علمية عربية، والعمل على تثقيف المجتمع لاحترام البحث العلمي، والربط بين البحث العلمي والصناعة وفق قيمنا الحضارية، التي لا تنتج الألغام للتدمير، وإنما تسعى لتطوير المشترك الإنساني وتوجيه طرح السؤال إلى الغاية والقيمة من البحث العلمي لتقويم البحث العلمي الغربي، فإدخال البعد الأخلاقي والإنساني وحسن طرح السؤال هو من أهم عناصر توجيه مسيرة البحث العلمي”.
عن إسلام أون لاين