قد يبدل الله حالك كرها من النقيض إلى النقيض، من رغد إلى فقر، من حرية إلى سجن أو استعباد، من دفء الأهل في بلدك، إلى وحشة الغربية في بلد بعيد عنهم. فإذا لم يكن لك حيلة في منع أيا من ذلك فاعلم أنما يريد الله أن يضعك أمام اختبار من نوع جديد، فإذا بقيت معلقا بذلك الامتحان، امتحان النعمة والرخاء – الذي كان في الصفحة السابقة من حياتك، متحسرا.. متألما.. باكيا، ربما أعاقك ذلك عن الإجابة الصحيحة على امتحان الصفحة الجديدة من حياتك.
هذا ما يخطر ببالك وأنت تقرأ بعض التفاصيل عن الحياة العجيبة لهذا الرجل الذي اشتهر في جنوب أفريقيا باسم توان جورو Tuan Guru وتعني المعلم الأكبر. وهو رجل ينطبق عليه كل ما قلت من تبدل الأحوال.
Table of Contents
توان جورو.. الأصول اليمنية
أما اسمه حقيقة فهو الإمام/ عبد الله بن القاضي عبد السلام، وهو من أحفاد عائلة من العلماء تعود أصولها إلى حضرموت من حواضر اليمن السعيد، وقد وصلت العائلة إلى الشرق الأقصى في القرن الرابع عشر. جده هو سونان جونونج جاتي، وهو مؤسس الإسلام الإندونيسي، الذي أصبح سلطان بانتن وسيريبون في جاوة في أواخر القرن الخامس عشر.
ومن سيريبون سافر جد توان جورو، حبيب عمر رحمة الفاروق، إلى مولوكان عام 1646 لنشر الإسلام. واستقر في جزيرة تيدور، وأصبح أحد أفراد أسرة السلطان المالكة.
وقد ولد توان جورو في تيدور عام 1712. وباعتباره عضوا في العائلة المالكة، سرعان ما أصبح توان جورو محط اهتمام شركة الهند الشرقية الهولندية، التي خوفًا من التمرد، احتجزته في باتافيا (جاكرتا)، وأخيراً نفته إلى كيب تاون بأقصى جنوب أفريقيا عام 1780، أي وهو في سن الثامنة والستين.
وعند الوصول، تم إرسال توان جورو ورفاقه في السفر، القاضي عبد الرؤوف، ونور الإيمان، وبدر الدين، مباشرة إلى جزيرة روبن، وظلوا هناك لمدة عام حتى أرسلهم الهولنديون، خوفًا من الغزو الإنجليزي، مع الأسطول الهولندي للاختباء في خليج سالدانا.
وعندما غزا الإنجليز هرب القاضي عبد الرؤوف ونور الإيمان إلى سفينة بريطانية، بينما اضطر توان جورو وبدر الدين إلى العودة سيرا على الأقدام إلى كيب تاون. ومن ثم تم إرسال توان جورو مرة أخرى إلى جزيرة روبن في عام 1786 عندما كان الهولنديون يخشون من حدوث انتفاضة، ولم يتم إطلاق سراحه إلا في عام 1791.
من جزر التوابل إلى كيب تاون: حياة وأوقات توان جورو
قصة توان جورو هذا وثقها الكاتب والمصور الصحفي والمحرر ومقدم البرامج الإذاعية والتلفزيونية شفيق مورتون Shafiq Morton في كتاب نشرته مؤسسة الأوقاف في جنوب أفريقيا عام 2019 وحمل عنوان “من جزر التوابل إلى كيب تاون: حياة وأوقات توان جورو From the Spice Islands to Cape Town: the Life and Times of Tuan Guru”،
وفي مراجعة للكتاب كتب هاين ويليمسي Hein Willemse من جامعة بريتوريا إنه على الرغم من أن الإسلام في الكيب قد تم قمعه ودفعه إلى العمل تحت الأرض خلال ولاية شركة الهند الشرقية المتحدة الهولندية، فقد رسخ نفسه بقوة بين السود الأحرار والسكان المزدهرين من الطبقة الدنيا من العبيد. ومن المنطقي أن ينقل العمال والعبيد والمدانين والسجناء السياسيين في جنوب شرق آسيا تقاليدهم الدينية إلى عالمهم الجديد.
ويضيف أن الشيخ يوسف من ماكاسار، الذي قاوم فرض حكم شركة الهند الشرقية الهولندية في بانتن وتم نفيه بعد ذلك إلى كيب مع حاشية مكونة من 49 شخصا في عام 1693، أي في أواخر القرن السابع عشر هو من وضع أسس الإسلام في الكيب.
وفي أغلب فترات حكم شركة الهند الشرقية الهولندية، كان المسلمون، عندما أتيحت لهم الفرصة، يتجمعون سرا في منازل السود الأحرار، أو في الغابات المحيطة والأماكن المنعزلة على جبل هويركواجو، في البحر. ويقال إنهم كانوا يميزون أنفسهم علنًا من خلال التمسك الشديد بتقاليدهم وطريقة لباسهم وسلوكهم الاجتماعي وصناعتهم.
الاختطاف والنفي
وينقل هاين عن كتاب شفيق أن توان جورو كان طوال معظم حياته (قبل الاختطاف والنفي) مستشارًا للسلطان جمال الدين، حاكم تيدور، وهي سلطنة كانت تقع على جزر مالوكو الاستوائية في أرخبيل جنوب شرق آسيا، وكان مصدر دخلها الرئيسي من التوابل، وفي وقت الصراع على تجارة التوابل بين الهولنديين وغيرهم من القوى الاستعمارية، زعم أن السلطان والعديد من حاشيته يتعاونون مع الانجليز، ومن ثم تم نفي السلطان إلى سيلان، وتم نفي توان جورو ورفاقه إلى باتافيا (جاكرتا عاصمة إندونيسيا حاليا)، ثم إلى الكيب.
ويشير هاين إلى أنه بين عامي 1667 و1793، تم احتجاز المئات من العبيد والمدانين من جنوب شرق آسيا في الكيب كمكان للاستعباد وكمستعمرة جزائية، إضافة إلى 182 من الأمراء والمستشارين والأئمة، وبحلول عام 1790، كان المجتمع المسلم يضم 2460 شخصا، وارتفع إلى 6000 بحلول عام 1842، أي ثلث سكان مستعمرة الكيب. وكان هؤلاء الأشخاص في كثير من الأحيان متعلمين وتعرفوا في الكيب على التقاليد الأدبية الهولندية أو الأوروبية الأخرى السائدة.
التحضر والتوسع
وصل توان جورو إلى الكيب في وقت يعتبره شفيق مورتون وقت “التحضر والتوسع”، وفي مكان تم فيه قمع العقيدة الإسلامية حتى لو كان قد تم التسامح معها. في ذلك الوقت، كانت قيادة الطائفة الإسلامية تعمل سراً، وتم إهمال التعليم، وكانت مراعاة الممارسات الدينية والثقافية ضعيفة.
وباعتباره منفيًا من أصل ملكي، يبدو أنه لم يُحكم عليه بالأشغال الشاقة وقد استغل وقته في تأليف كتابه الأشهر “معرفة الإسلام والإيمان Ma’rifat al-Islam wa’l-Iman (The Knowledge of Islam and Faith)”، وهي مخطوطة تتكون من 613 صفحة مكتوبة بخط اليد تتناول الشريعة الإسلامية والممارسات الدينية، مكتوبة بالحبر الأسود والأحمر على الصحف باللغة العربية مع ترجمات باللغة الماليزية والبوغينية (وهي إحدى اللغات الإندونيسية يتحدث بها الآن ما يقرب من 4 ملايين إنسان)، وهو الكتاب الذي يقول عنه أحد المؤرخين أنه “لا يوجد كتاب آخر كان له تأثير أكثر أهمية في الكيب من هذه المخطوطة المكتوبة بخط اليد”.
علاوة على ذلك، وبصفته حافظًا للقرآن، قام توان جورو بتدوين نص القرآن بالكامل من الذاكرة، وبالتالي إضفاء الطابع الرسمي على تقليد حفظ القرآن المحلي، ويُعرض اليوم أحد مصاحف توان جورو المكتوبة بخط اليد في “مسجد الأول” الذي أسسه توان جورو في كيب تاون.
إطلاق السراح
وعند إطلاق سراحه من فترة سجنه الثانية عام 1791، بقي توان جورو في الكيب، وحول وحدته في المنفى والحنين إلى الوطن والغربة إلى قوة من أجل الخير، حيث اتخذ لنفسه زوجة وهو يبلغ من العمر 79 عاما حينها، وهي كيجدا (خديجة) فان دي كاب زوجة له، والتي أنجبت له ولدين، ولعب دورا رائدا في تنظيم وتثقيف المؤمنين، مما جعله “أول ناشط حضري مسجل في بلادنا”.
وبحلول عام 1794، كان يعيش في مكان يقع في شارع دورب في بو-كاب، وهو أحد العقارين المتجاورين اللذين اشتراهما كوريدون سيلان الأسود الحر. وهناك أنشأ أول مدرسة دينية إسلامية، في جنوب أفريقيا عام 1793. والتي بحلول عام 1825، بلغ عدد طلابها 491 طالبا. وكانت المدرسة الأولى والمسجد مركزًا لنشاط المجتمع الإسلامي المتنوع الذي جاء أتباعه من جنوب شرق آسيا، وأجزاء من أفريقيا، ومن جزر المحيط الهندي وأماكن أخرى،.
حيث كانت المدرسة والمسجد “مساحة داخل الفضاء الاجتماعي الاستعماري الحالي الذي يمكن أن يتواجد فيه العبيد والسود الأحرار، والطبقة الدنيا في الكيب”، و”مؤسسة شاملة في مجتمع استعماري حصري” وتحت توجيهاته تطورت “هوية كيب تاون الفريدة”، والتي دمجت مجتمع السود والعبيد الأحرار المتنوع في “مجموعة يمكن التعرف عليها”.
قواعد الإملاء
ومن خلال قواعد الإملاء العربية، لعبت المدرسة الأولى دورًا محوريًا في تطوير تقليد مجتمعي بديل لمحو الأمية والذي تغير تدريجيًا من الملايو إلى كيب الهولندية وأدى إلى ظهور ما نعرفه اليوم، من تقليد الكتابة العربية الأفريكانية.
وبدءا من توان جورو، الذي توفي عام 1807، أسس الأئمة والقادة المسلمون المتعاقبون تقاليد التعليم الإسلامي المحلي وشبكة من منظمات دعم المجتمع التي استمرت بعد الإدارات الهولندية والبريطانية وأوائل جنوب إفريقيا وما زالت تزدهر حتى القرن الحادي والعشرين.
يقول شفيق مورتون عن توان جورو: هو رائد التعليم في جنوب أفريقيا، (ومن ثم جاء هذا اللقب: توان جورو المعلم الأكبر)، وهو بطل عظيم قام بتعليم جميع العبيد في كيب تاون ليس فقط عن الكرامة، بل عن الإسلام.
وتقول قصة توان جورو لنا: علينا أن ننظر دائما إلى الصفحة التي نحن فيها “هنا والآن”، ونحولها إلى ساحة للعمل البناء الذي نتجاوز به أحاسيس الغربة، والحنين إلى الماضي، والأسى على ما فات.
د/ مجدي سعيد
