في أحد محاضراته وجه ” جاك دبوشيه Jacques Dubochet ” عالم الكيمياء السويسري هذا التساؤل إلى طلابه: “فلنفترض اننا اكتشفنا الدواء لمرض الزهايمر، ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ثم استطرد يقول، أجيبكم أنا “في الحال ستظهر بضع شركات رأسمالية كبرى للسطو على حق الصناعة، ثم تتيحه في الأسواق بأسعار خيالية ولن يستطيع الحصول عليه سوى عدد قليل جدا، كما حدث ويحدث مع أمراض نقص المناعة، السرطان وغيرها”.
يعتبر دبوشيه ان الاكتشافات العلمية المهولة حتى الآن لم تستخدم لصالح الخير الإنساني العام، لأن منظمة الصحة العالمية على سبيل المثال لا تستطيع بكل ما تحمله من أممية توزيع الدواء على الجميع بالتساوي.
ويرى دبوشيه ان رجل العلم من الضروري ان يخرج من برجه العاجي ويصير مواطناً يعيش مآسي العالم الكبرى، رجل العلم من الضروري ان يكون سياسياً، مهتماً بشؤون جنسه البشري وهموم وطنه والآمه وآماله. وقد مثل دبوشيه هذا المثال كونه أحد أعضاء الحزب الاشتراكي السويسري ثمانينات القرن الماضي.
يظهر دبوشيه في الفيلم الوثائقي الذي يسرد قصة نجاحه وحصوله على الجائزة بأزياء غاية في البساطة واليومية، بلوزات صيفية خفيفة، سراويل قطنية قصيرة وقطنية، لم يظهر في لقطة واحدة مرتدياً زي رسمي أو حتى متحدثا بأسلوب أكاديمي معقد. يتنقل بدراجته اليدوية وسط الطبيعة والشوارع. ابتسامته لا تفارقه.
يكرس دبوشيه وقته حالياً للنضال ضد الأحترار المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض وتعتبر هذه القضية بالنسبة له قضية القضايا، يؤكد ان الأمر لو استمر على هذه الوتيرة لن يصير هناك ارض من الأساس خلال فترة قصيرة. ولم يعد الأمر مهما فقط، بل صار مسألة حياة أو موت، والمسؤولية أولاً واخيراً تتحملها الدول الكبرى لان أرباحها ورفاهية سكانها دائما على حساب سكان العالم الفقير.
يعبر دوبوشيه عن أسفه من الكبار في العمر مثله عندما يعبرون عن لامبالاتهم، لأنهم وقت المأساة لن يكونوا هنا، وماذا عن أحفادكم؟
رغم أبحاثه ومحاضراته واشتراكه في مظاهرات ضد الحكومات المتواطئة مع الراسمالية المتوحشة إلا انه يدرك جيدًا انه ينتمي إلى الجيل الذي بلغ خلاله التلوث مداة الأقصى ولا يستطيع بأي حال لوم شاب يلومه على إعطاء نصائح لحل مشكلات كان جيله سبب في صنعها.
جاك دبوشيه صار مشهورًا في بلده سويسرا وأوروبا عموماً، يقابله الناس من كل الأعمار في الشارع ومعارض الكتب بحفاوة، ولكن ما يلفت الانتباه بشدة سعادة الأطفال بلقائه، في الفيلم الوثائقي يظهر أطفال يوجهون إليه تساؤلات عن تخصصه وحياته في المدرسة، ويجيبهم ببساطة وأريحية انه كان طالبا كسولا لكنه كان بارعا في الاعمال اليدوية، حتى أنه اخترع تلسكوبا أثناء فترة دراسته وقد دعمه وشجعه معلم الأنشطة اليدوية.
عالم الكيمياء قدوة ومثال يحتذى في دولة متقدمة أولويتها الإنسان وبناء عقله وتمهيد السبل أمامه للرقي والإنتاج وتحقيق الذات بما يتناسب مع ميول كل إنسان حتى كان هذا اللقاء الحار بين أطفال وعالم كيمياء كبير.
الوعي العقلي يتضح أيضا في مظاهرة طلابية عارمة وسط سويسرا ضد التلوث المناخي وارتفاع نسبة الكربون، هناك مجموعات منظمة لاقتراح الحلول التي توزعت بين محاربة الرأسمالية المتوحشة وتأسيس اقتصاد تشاركي صديق للبئية والإنسان.
بعد انتهاء مشاهدتي للفيلم الوثائقي الذي عرضته القناة الخامسة الفرنسية عن جاك دبوشيه ، انبثقت بغزارة داخل عقلي تساؤلات ممتزجة بالحسرة والاحباط، يمكن ايجازها في سؤال واحد:
أين نحن من كل ذلك؟
لماذا لا يكون لاطفالنا قدوة علمية وفكرية، عالم كيمياء مثلاً بدلاً من لاعب كرة على سبيل المثال؟
كيف تحولت مدارسنا وجامعاتنا إلى خرابات منتجة لشباب فارغ لا يحمل أي ثقافة علمية بل من الجائز ان يتخرج منها اسوء مما دخل؟
كيف تحول الإنسان المواطن البسيط في مجتمعاتنا إلى حقل تجارب لأنظمة سلطوية لم تعمل يوما ما لبناء الإنسان، بل لهدمه عقليا وصحياً وحياتياً؟
لماذا يناضل الإتسان في سويسرا مثلا ضد تلوث البيئة ويناضل الاتسان لدينا للهجرة والهرب من هذه البقعة الغير إنسانية؟
ما كنه النخب الحاكمة التي حولت الإنسان إلى قنبلة موقوته من الاحباط والاكتئاب والحزن والعنف الموجه للذات وللخارج؟ لكم امتعني الفيلم الوثائقي وآلمتني الأسئلة.
جاك دوبوشيه هو عالم سويسري متخصص في مجال الفيزياء الحيوية، من مواليد 8 يونيو 1942.
حصل جاك دوبوشيه بمرافقة يواخيم فرانك وريتشارد هندرسون على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 2017 لأبحاثهم في تطوير مجهر إلكتروني فائق البرودة لتحديد بنية الجزيئات الحيوية في المحلول باستبانة ودقة عالية.