مبدعونشخصيات فنيةمواهب واعدةنابغون

ستيفن ويلتشير الأبكم الذي تواصل مع العالم من خلال لغة الرسم

قد يأخذ منك الله نعمة أو يوقعك في محنة ليهبك نعما أخرى، وما قد يبدأ بمعاناة وعجز يتسبب في ألم لك ولمن حولك قد يتفجر في موهبة فائقة تكون سببا في عطاء بلا حدود. ربما يكون هذا هو الخاطر الأول السريع الذي يرد على ذهنك وأنت تطالع رحلة حياة وتجليات موهبة الرسام العالمي ستيفن ويلتشاير، وما فتح له بسبب تلك الموهبة من أبواب، وما وهب بسببها من عطايا.

ستيفن ويلتشير Stephen Wiltshire هو فنان يرسم ويصور مناظر المدن بطريقة تفصيلية، إذ أن لديه موهبة خاصة في رسم تمثيلات واقعية ودقيقة للمدن، أحياناً بعد مشاهدتها لفترة وجيزة فقط. حصل على وسام الإمبراطورية البريطانية MBE لخدماته في عالم الفن في عام 2006 . درس الفن التشكيلي في كلية سيتي آند جيلدز للفنون. اكتسبت أعماله شهرة في جميع أنحاء العالم، وتقتنى في عدد من المجموعات الفنية الهامة.

ولد ستيفن في لندن بالممل كة المتحدة لأبوين من جزر الكاريبي الأب من باربادوس والأم من سانت لوسيا في الرابع والعشرين من أبريل عام  1974 . كان ستيفن طفلا أبكم، ومنطويا، فلم يكن له علاقة بأشخاص آخرين، وفي سن الثالثة، تم تشخيصه بأنه مصاب بالتوحد، لم يكن لديه لغة يتواصل بها مع الناس، فعاش بشكل كامل في عالمه الخاص.

وفي سن الخامسة، أرسل إلى مدرسة Queensmill في لندن، حيث لوحظ أن التسلية الوحيدة التي كان يتمتع بها هي الرسم، وسرعان ما أصبح واضحاً أنه يتواصل مع العالم من خلال لغة الرسم. أولا عبر رسم الحيوانات، ثم رسم حافلات لندن، وأخيرا رسم المباني.

وكانت تلك الرسوم تظُهر منظورا بارعا وخطا خياليا وتكشف عن فن فطري طبيعي. لذا فقد شجعه المدربون في المدرسة على التحدث عبر استخدام حيلة تستفزه على النطق والحديث، وذلك عن طريق سحب لوازمه الفنية مؤقتاً حتى يضطر إلى طلبها، وقد رد ستيفن على ذلك الاستفزاز بصنع أصوات تعبر عن احتجاجه، وفي النهاية نطق بكلمته الأولى “الورقة”، وأخيرا تعلم أن يتكلم بشكل كامل في سن التاسعة. كانت صوره المبكرة تصور الحيوانات والسيارات، ولا يزال مهتمًا للغاية بالسيارات الأمريكية ويقال إنه يمتلك معرفة موسوعية بها، لكنه عندما كان في السابعة من عمره، أصبح مفتوناً بمباني لندن التاريخية.

ستيفن ويلتشير الأبكم الذي تواصل مع العالم من خلال لغة الرسم
ستيفن ويلتشير الأبكم الذي تواصل مع العالم من خلال لغة الرسم

وفي تلك المرحلة أعطى أحد معلمي ستيفن له اهتماما خاصا، حيث رافق تلميذه الشاب فيما بعد في رحلات للرسم، وأدخل أعماله في مسابقات لرسوم الأطفال، والتي حصل ستيفن في العديد منها على عدد من الجوائز. وقد جعلت موهبته الصحافة المحلية متشككة في كيفية قيام طفل صغير بإنتاج مثل هذه الرسومات البارعة. وسرعان ما لفتت موهبته اهتمام وسائل الإعلام على الصعيد الوطني، وأخذ ستيفن ويلتشاير البالغ من العمر 7 سنوات خطواته الأولى لإطلاق مسيرته المهنية مدى الحياة. ففي نفس العام باع أول عمل له وعندما بلغ الثامنة، أوكل إليه من قبل رئيس الوزراء البريطاني رسم كاتدرائية سالزبوري. وفي فبراير 1987 ظهر ستيفن في برنامج ال BBC عن المتميزين المتعايشين مع مرض التوحد واسمه The Foolish Wise Ones ، كما ظهر في البرنامج أيضا باحثون يتمتعون بمواهب موسيقية ورياضية. وقد أشار إليه هيو كاسون Hugh Casson ، وهو رئيس سابق للأكاديمية المل كية للفنون في لندن، بأنه “ربما يكون أفضل فنان طفل في بريطانيا”.

لذا فقد قدم كاسون ستيفن إلى مارجريت هيوسون Margaret Hewson ، وهي وكيلة أدبية ساعدت ستيفن في صفقات كتبه الفنية فيما بعد، وسرعان ما أصبحت مرشدًا موثوقاً له. حيث ساعدت ستيفن في نشر كتابه الأول، رسومات Drawings عام 1987، وهو مجلد يحوي رسوماته المبكرة التي ظهرت بمقدمة لكاسون. كما رتبت مارجريت رحلة ستيفن الأولى إلى الخارج، إلى مدينة نيويورك، حيث رسم ناطحات السحاب الأسطورية مثل مبنى إمباير ستيت ومبنى كرايسلر، كجزء من القصة التلفزيونية التي أعدتها أخبار التلفزيون الدولي في لندن عنه، وفي نيويورك التقى ستيفن بأوليفر ساكس Oliver Sachs الذي فتن بالفنان الشاب، وصارت بين الاثنين صداقة طويلة. حيث كتب عنه أوليفر بشكل مكثف بعد ذلك. وقد شكلت الرسوم التوضيحية الناتجة عن زيارته بالإضافة إلى الرسم التخطيطي لمواقع في دوكلاندز بلندن، وباريس، وإدنبره الأساس لكتابه الثاني “مدن – Cities ” الصادر عام 1989 ، والذي تضمن أيضًا رسومات لمدن ضخمة خيالية بشكل بحت.

وفي هذا الوقت أيضا شرع ستيفن في جولة رسم في فينيسيا وأمستردام ولينينغراد وموسكو، وجذب الحشود أينما توقف للرسم، ورافقه أوليفر في جزء من رحلته الفنية تلك، حيث كان أوليفر يجري أبحاثاً لكتاب جديد له عن قصة ستيفن. وقد كونت رسومات تلك الجولة الفنية مادة كتاب ستيفن الثالث المدن العائمة Floating Cities ، الصادر عام 1991. وتلى ذلك زيارات لرسم مدن عالمية كبرى كطوكيو، وروما، واسطنبول، ومدريد، ودبي، والقدس، وشيكاغو وسان فرانسيسكو، وهيوستن، ونيويورك مرة أخرى، فضلا عن هونج كونج وسنغافورة، وسيدني، وشينغهاي، ومكسيكو سيتي. وعلى عكس الاعتقاد الخاطئ الشائع بأن ستيفن مهتم فقط بالرسم المعماري ورسم السيارات الأمريكية الكلاسيكية، فإنه غالبا ما يرسم صور المشاهير والأصدقاء المقربين في كراسة الرسم الخاصة. كما بدأ ستيفن في خلق رسوم كاريكاتورية لمدرسيه في المدرسة الابتدائية، ومنذ ذلك الح ين أنتج العديد من “اللقطات المفاجئة” الكاريكاتورية التي توثق الحوادث المسلية في رحلاته إلى الخارج.

في عام 2006 وبعد حصوله على الوسام البريطاني، أسس ستيفن معرضه الفني الدائم في أروقة الأوبرا المل كية بلندن. وفي عام 2009 اختير ستيفن سفيرا ليوم فنون الأطفال Children’s Art Day في الممل كة المتحدة، وفي عام 2011، أصبح ستيفن زميلا فخريا لجمعية الرسوم التوضيحية المعمارية SAI ، وفي عام 2015 أصبح زميلا فخرياً للرابطة الاسكتلندية للفنانين المعماريين، وذلك ضمن عدد من التكريمات والجوائز التي حصل عليها على المستوى الوطني والدولي.

وإذا كان لنا أن نضع ملاحظة أخرى على حياته، فهي ملاحظة أنه في كل مرحلة من مراحل حياته وجد في المجتمع أفرادا ومؤسسات من يمد له العون سواء ليتجاوز محنته في سني عمره الأولى، أو ليرتقي سلم المجد والشهرة، درجة بعد أخرى، من أول المدرسة ومعلمه فيها، للبرامج التلفزيونية لرئيس أكاديمية الفنون، للوكيلة الأدبية، للصديق الكاتب الأمريكي، للمؤسسة المل كية، وهكذا في ظل مجتمع حاضن ومشجع ومنمي للموهبة، يتجاوز الإنسان محنته، ويرتقي سلم النجاح، أما لو كان وجد عكس ذلك، ربما دفنت موهبته، أو بقيت في زوايا النسيان.

د. مجدي سعيد

زر الذهاب إلى الأعلى