أشجار التوت.. نموذج كوري في إعادة اكتشاف الموارد المحلية
أشجار التوت
بقلم : د . مجدي سعيد
“إعادة اكتشاف الموارد المحلية” هو مصطلح أطلقه أستاذنا الدكتور حامد الموصلي على منهجيته في العمل مع الخامات والموارد المتجددة وإعادة بث الحياة فيها بنقلها إلى مستوى أعلى من الناحية الاقتصادية، وذلك من حيث استخدامات هذه الخامات والموارد، والتي يراعى فيها استثمار الخبرة البشرية التقليدية المتوارثة في التعامل مع تلك الخامات من خلال منتجات قديمة، مع تطوير تلك الخبرات لترتقي لإنتاج المنتجات الجديدة لتصنع بصمة حضارية مميزة لكل مجتمع محلي تختلف باختلاف ما حباه الله به من خامات وموارد طبيعية وبشرية. هذه المصطلح/ النموذج وجدته مجسدا أمامي (بل ومعبرا عنه بلفظه) لدى مطالعتي للجزء الثاني من كتاب “العجائب الكورية الخمسون” والذي يتناول العلوم والتكنولوجيا، وبه فصل خاص عن ورق الـ”هانجي Hanji” الكوري المصنوع من لحاء أشجار التوت، ولأنني وجدته نموذجا تطبيقيا متكاملا يشرح ويبين ما يقصده أستاذنا الموصلي أحببت أن أقدمه لقارئنا العربي.
الورق الكوري “هانجي” هو جزء من الثقافة الكورية التقليدية على مدى 1600 عام ويصنع كما قلنا من لحاء شجرة التوت mulberry ، وهو نوع معمر من الورق، إذ يمكن أن يعيش لما يزيد عن ألف عام، وهو يتميز بالمرونة والشفافية والنعومة ومقاومة الرطوبة، وإذا ما عولج بصبغات متعادلة يمكن أن يكتسب خصائص مقاومة للحشرات والعفونة. وقد انتشر ذلك الورق الكوري ولاقى التقدير في أنحاء شرق آسيا خاصة في الصين. ويتم صنع ذلك الورق الكوري على عشر خطوات تشمل: تقشير اللحاء، غسل وتبييض الألياف، إزالة الشوائب، تحطيم الألياف، تفريق الألياف في الماء، إضافة نشا التوت، إجهاد الألياف، ثم تجفيفها، وصبغها، وتنعيم الأوراق الناتجة. وقد اكتسبت تلك الأوراق شعبية لدى الكتاب والرسامين على مدى قرون، كما أكسبت خصائص المتانة والتنوع الورق الكوري استخدامات عديدة، حيث استخدم كورق للحائط ولتغطية الأرضيات، كما ستخدم في صنع الأحذية، وصناديق الحياكة، والسلال، والمظلات والملابس، والمحافظ والوسائد، والأواني، والأحواض، وطاولات الطعام، لكن الاستخدام الأكثر شيوعا كان استخدامه بديلا لزجاج النوافذ والأبواب وذلك لخصائصه التي لا تساعد فقط على التهوية ولكن تتحكم أيضا في الرطوبة، حيث تمتص الرطوبة عند زيادتها، وتبثها حين قلتها، كما أن ذلك الورق يختزن الحرارة كالملابس القطنية، ولكون الورق شفاف فإنه يسمح بنفاذ الضوء.
لكن كل تلك الخصائص والاستخدامات المتنوعة لم تمنع من اهتزاز مكانة الورق الكوري مع التقدم في صناعات الورق الآلية منذ القرن التاسع عشر، وذلك لحاجة صنع ذلك الورق إلى قدر أكبر من الوقت والطاقة، ومع انتشار الاعتقاد بأن كل ما هو تقليدي فهو بال ويستحق الإهمال، مما هدده بالانقراض، وقلل استخدامه لعدة سنوات.
لكن نشر المعرفة بخصائص وفوائد ذلك الورق المتنوعة، وخدمة هذه المعرفة عبر البحث العلمي لإعادة اكتشاف خصائص هذا المورد في ضوء العلم الحديث أعادته إلى الحياة كمادة ذات استخدامات حديثة حالية ومحتملة. وكان أول المجالات الحديثة لاستخدام الهانجي هو مجال الفنون والحرف اليدوية، وذلك لما يتميز به الهانجي من ملمس ناعم، وألوان نابضة بالحياة، وبنية خفيفة وقوية في ذات الوقت، ومن ثم فإن الكثير من الجاليريهات والمتاحف في منطقة إنسا-دونج بالعاصمة الكورية سول تمتلئ ببضائع حديثة مثل علب المجوهرات والصواني، وعلب الأقلام والحقائب إضافة إلى المشكاوات المصنوعة من الهانجي والتي تستفيد من خصيصة الشفافية فيه والتي صارت تكتسب شعبية. وقد تطور الاهتمام بتلك المنتجات الفنية والحرفية الحديثة حتى صارت تقام مهرجانات دورية لثقافة الهانجي Hanji Cultural Festival داخل كوريا وخارجها، منها ذلك المهرجان الذي أقيم في باريس عام 2005 وعرضت فيه ملابس وأثاث وأعمال حرفية مصنوعة من الهانجي ضمن معروضات وأنشطة متنوعة أشادت الصحافة الفرنسية بالمهرجان، كما أن المشكاوات المصنوعة من الهانجي لاقت حفاوة كبيرة من الباريسيين.
أما عن الاستخدامات الأخرى لأوراق الهانجي فمنها استخداماته في الأجيال الجديدة من الأجهزة الصوتية كالميكروفونات، وكذلك استخدامها في صناعة خوذات الدراجات النارية والخوذات العسكرية، من تلك الاستخدامات أيضا استخدامها (مدهونة بالزيت) بديلا للزجاج في البيوت الزجاجية (الصوبات) Greenhouse حيث قام العلماء في كوريا الجنوبية عام 2002 بإعادة بناء ما يعتقد بأنه أول بيت زجاجي فعال active كان قد بني في القرن الخامس عشر الميلادي في عهد الملك سيجونج بتقنية كورية خاصة، وقد استخدم ورق الهانجي لخصائصه في التعامل مع أشعة الشمس وقطرات الماء المتكثفة داخل الصوبة بما يحتاجه النبات.
أما عن الاستخدامات المقبلة والمحتملة للهانجي فيجسدها ما يقوم به فريق بحثي يقوده البروفيسور كيم جي هوان من جامعة إينها Inha University بإجراء بحث ممول من وكالة ناسا لصناعة ملابس حمائية بل وحتى روبوتات للمسابر الفضائية باستخدام ورق الهانجي حيث تتميز الأوراق بأنه إذا مر فيها تيار كهربائي فإنها تتحرك كالعضلة، كما يبحث الفريق في إمكانية صنع دروع للماكينات تقيها من التداخلات الكهرومغناطيسية مستفيدا في ذلك من متانة الورق وخصائصه الكهربية. إتجاه آخر في البحث يقوم به فريق في مركز تطوير الهانجي Hanji Development Center هو استخداماته في صناعة الأثاث الناعم كالوسائد والبطانيات وهو ما يمكن أن يحمي من حساسية الجلد ويقي من حشرات عث الغبار، كما أن هناك اتجاها لاستخدامها كمواد للبناء صديقة للبيئة.
هذا النموذج الكوري في إعادة اكتشاف الموارد المحلية جدير بالتعلم منه سواء في منهجية خدمة عملية الإحياء عبر البحث العلمي لإعادة فهم وتقدير خصائص الخامات والموارد المحلية، ومن ثم استخراج منتجات حديثة عالية القيمة الاقتصادية بشكل دائم من تلك الخامات والموارد، ثم الخدمة التسويقية عالية المستوى محليا ودوليا لتلك المنتجات الحديثة. ولعل بث الحياة في إعادة زراعة أشجار التوت وإنتاج الحرير في مصر والمتمثلة في نشاط “رابطة منتجي ومسوقي الحرير الطبيعي في مصر” تكون مدعاة للاهتمام بكل الإمكانات المحتملة والكامنة في أشجار التوت وليس فقط في الحرير، والتي يمثلها ما عرضناه هنا من منتجات مصنوعة فقط من لحاء أشجار التوت، ولعل نشاط أستاذنا الدكتور حامد مع أشجار النخيل يكون مثالا آخر قريبا يحتذى يمكن أن يلهم آخرين للعمل مع أشجار ونباتات محلية أخرى كالدوم والموز والذرة وغيرها من المزروعات والنباتات التي تنبت على الأرض المصرية.
مصدر المقال:
Korean Spirit & Culture Promotion Project, Fifty Wonders of Korea, Volume 2, Science and Technology, Second print, November 2009, pp 114 – 123 & 138
وللمزيد من المعلومات طالع على الويكيبيديا:
وطالع للكاتب: أشجار التوت..ذكريات الماضي ونماء المستقبل
وطالع صفحة رابطة منتجي ومسوقي الحرير الطبيعي على الفيسبوك:
رابط صفحة الدكتور مجدي سعيد على الفيسبوك :